محمد خان.. رحلة المفكر السينمائي باقية في روح مصر

ثقافة وفن

 محمد خان
محمد خان

مع أنه ولد لأب باكستاني وأم مصرية في 26 أكتوبر عام 1942، فإن محمد خان كان وسيبقى أحد أعظم من جسدوا الواقع المصري على الشاشة الكبيرة وبرؤية سينمائية جمعت بين النزعة الطليعية في الفن السابع وروح ابن البلد الأصيل. 


والمخرج السينمائي محمد خان الذي قضى أمس "الثلاثاء" في مستشفى بحي المعادي القاهري عن عمر اقترب من ال74 عاما يعد من "علامات السينما الواقعية المصرية"، فيما بقى عشق السينما "كامنا" في قلبه وعقله منذ بدايات التكوين بعد أن شاء حظه السعيد أن تكون ايام طفولته في منطقة بها دار مكشوفة للسينما، وتسنى له مشاهدة الأفلام على الشاشة الكبيرة من شرفة بيته.


وصاحب "زوجة رجل مهم"، و"ضربة شمس"، و"أيام السادات"، و"فتاة المصنع"، توغل برؤية مثقف كبير في أعماق الواقع الاجتماعي والسياسي المصري، و"ابن بلد مصري"، ولد في حي السكاكيني القاهري وعرف تلاوين وأطياف ومفارقات ولطائف الحياة المصرية.


وكان للعشق الكامن للفن السابع أن يتجلى وينكشف ساطعا عندما ذهب الشاب محمد خان للعاصمة البريطانية لندن في عام لا ينسى وهو عام 1956 لدراسة الهندسة، فإذا به يفعل ما فعله من قبل مثقفون مصريون كبار ذهبوا للغرب بقصد الدراسة الجامعية المنتظمة في مجال ما، لكنهم غيروا المسار نحو الأدب والفن.


وكما فعل مثلا توفيق الحكيم الذي ذهب لفرنسا بقصد دراسة القانون، فإذا به يكرس جل وقته وجهده للأدب والإبداع الثقافي المتعدد الأوجه، كان للشاب محمد خان ان يغير مساره في لندن وان يترك دراسة الهندسة ليلتحق بمعهد السينما.


وعلى مدى سبع سنوات، تعرف على مختلف تيارات الفن السابع في أوروبا وبني قاعدته المعرفية وشكل رؤاه وتبنى أفكارا سينمائية متقدمة ضمن تكوين ثقافي راسخ وثري ليكون فيما بعد أحد الذين يحق وصفهم بالمفكرين السينمائيين في العالم.


وكان لقدره السعيد أن يتيح له التعرف مبكرا بعد عودته لمصر قادما من بريطانيا على أحد أبرز أعلام الواقعية في السينما المصرية والعربية وهو المخرج الكبير صلاح أبو سيف الذي كان قد مد جسور الصداقات وشبكات العلاقات مع ثلة من كبار المثقفين المصريين وجذب بعضهم للكتابة السينمائية وفي طليعتهم نجيب محفوظ. 


ومن الدال على ثراء التكوين المعرفي والثقافي والسينمائي لمحمد خان انه وهو المخرج الكبير قام بكتابة سيناريوهات لأفلام لم يخرجها مثلما حدث في فيلم "سواق الأتوبيس" للمخرج الراحل عاطف الطيب في عام 1982 والذي بات من علامات السينما المصرية.



وصاحب "طائر على الطريق"، و"الحريف"، و"أحلام هند و كاميليا"، و"سوبر ماركت"، اعتبر أن الفن سبيل ثقافي لتعبير الفنان عن وجهة نظره حيال شتى القضايا في الحياة والعالم مثلما يعبر الروائي عن وجهة نظره بالكلمة. 


ولئن حصل محمد خان على جائزة مستحقة في أول دورة لمهرجان القاهرة السينمائي عام 1979 فقد نال العديد من الجوائز السينمائية العربية والدولية، غير أن جائزته الكبرى كانت هذا التقدير الكبير لأفلامه من جانب النخب الثقافية الطليعية والجماهير على مستوى الشارع المصري والعربي معا.


وإذ حصل هذا المخرج الكبير على الجنسية المصرية قبل نحو عامين لتحقق أمنية من أعز أمانيه، فإنه كان يقول دوما بكل الحب والفخر: "أنا مصري ولدت وتربيت في شوارع القاهرة وأحيائها الشعبية". 


وإذا كان لكل إنسان قدره، فالفن كان قدر محمد خان وطريقه للخلود ضمن ثلة من المبدعين المصريين في مجالات ثقافية متعددة وفضاءات متنوعة ورحبة بقدر ما قد توميء هذه العبارة المختصرة لقصة حياة عاشق الفن السابع وصاحب "مشوار عمر" الذي فقدته الثقافة المصرية، غير أن إبداعاته لن تموت.


وصاحب "موعد على العشاء" الذي ولد لأب باكستاني عمل كتاجر شاي يحق وصفه بأنه أسهم بفنه في تشكيل الوعي الايجابي لأجيال من المصريين والعرب، فيما عبر بحق عن "طعم البيوت" في الأرض المصرية الطيبة.
ولن يكون من قبيل المبالغة وصف محمد خان بأنه "مفكر مصري كبير ومثقف رفيع المستوى تجلى فكره وثقافته بالصورة"، فيما تميز باهتمام أصيل بالقيم الجمالية في أعماله وآخرها فيلم "قبل زحمة الصيف".


وهو بالتأكيد أحد أهم من منحوا السينما المصرية مكانتها التاريخية المرموقة كأحد رواد الواقعية الجديدة، وستبقى مكانته العالية في السينما المصرية التي حققت منذ ثلاثينيات القرن العشرين مكانة فنية وثقافية بارزة لمصر في محيطها العربي والإقليمي والقاري.


بل إن الفيلم المصري كان موضع ترحيب في دور العرض السينمائي بدول مثل فرنسا واليونان وإيطاليا وبريطانيا والنمسا وألمانيا وسويسرا وحتى البرازيل، فيما حظيت بمزيد من الحضور بفضل نجوم كبار وأصحاب رؤى ثقافية عميقة.


ولا ريب أن محمد خان من "فلاسفة الصورة" في السينما المصرية التي قدمت في عصرها الذهبي نجوما مازال العالم يتذكر إبداعهم الفني وحضورهم الطاغي بقدر ما كانت صناعة من أهم مصادر الدخل القومي للبلاد، فيما يقدر عدد العاملين حاليا في هذه الصناعة بنحو 300 ألف شخص.



وجماليات سينما محمد خان غير منبتة الصلة بأسلوب تبناه شيخ المخرجين المصريين محمد كريم وهو أول من اشتغل بالإخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة بالمنظر ولوازمه ومحتوياته، وكان يقدم الطبيعة في أجمل صورها، وهو ما يتجلى في أفلام مثل "زينب"، و"الوردة البيضاء".


ولئن كان محمد خان من رواد "الواقعية الجديدة"، فالسينما المصرية كان لها فضل السبق في إدخال "الواقعية" في الفن السابع بالمنطقة كلها بإبداعات المخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم "العزيمة" ليدشن مدرسة الواقعية في مواجهة الرومانسية المغرقة لشيخ المخرجين المصريين محمد كريم. 


أما كمال سليم بواقعيته، فهو يعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقديم شخصيات نعرفها تماما لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم. وفي عام 1965 اختار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه "قاموس الأفلام" فيلم "العزيمة" لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ السينما، بل إن سادول اعتبر أن هذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939؛ "يفوق الأفلام الفرنسية والإيطالية التي ظهرت في الفترة ذاتها"، فيما جاء صلاح أبو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير بخيط الواقعية من جديد ولتعبر أفلامه مثل "الأسطى حسن"، و"ريا وسكينة"، و"الفتوة" عن اللحظة التاريخية المصرية.


وتبلور هذا الاتجاه بمزيد من الوضوح في "القاهرة 30"، و"بين السماء والأرض"، و"بداية ونهاية"، و"القضية 68" ودشن هذا الفيلم ما عرف "بالواقعية النقدية" وكان يتحدث عن ضرورة الثورة بعد أن تهدم كل ما عداها، "فالثورة ضرورة من أجل النمو والتقدم".


ومحمد خان؛ شأنه شأن المخرج توفيق صالح الذي عرف بأسلوب الواقعية الجديدة المتأثر بالمدرسة الإيطالية مع إبداع مصري خالص وأصيل، كما تبدى في "صراع الأبطال"، و"درب المهابيل"، واستحق إعجاب وتقدير كل عشاق السينما لإبداعاته رفيعة المستوى والتي دخلت على الرغم من قلة عددها في قائمة أفضل 100 فيلم مصري.


محمد خان صاحب "خرج ولم يعد": لن تخرج أبدا من قلب وعقل وروح مصر الخالدة.. وكيف تخرج وأنت أحد عشاقها الكبار وفلاسفة صورتها السينمائية وصانعي جماليات البهجة المصرية؟ ما أروع وأنبل مسيرتك الثقافية الإبداعية الباقية في ضمير مصر الخالدة.