إبداع التاريخ والتراث في أعمالِ عبدالله صالح حداد ابن الشحر المخلص الأمين

اليمن العربي

 المُؤرِّخُ المُبْدِعُ هو الإنسانُ الذي يُقدِّمُ جديدًا في حقلٍ معينٍ من حقولِ المعرفةِ، والمؤرِّخُ المبدعُ هو ذلك الذي يقدمُ لنا مؤلفات عدة في موضوعاتٍ مختلفةٍ، لكن يجمعها أطارٌ واحدٌ، فيطرح في كلِّ كتابٍ من مؤلفاتهِ رؤيةً جديدةً لم تكن مطروحةً بالشكلِ الذي طرحَه.. والمبدعونَ من هذا النوعِ لا تفترُ عزيمتُهُمْ، ولا يقل عطاؤهم، ولا يخبو ضوؤهم لأنهم يشعونَ بالفكرِ الذي يزدادُ اتقادًا كلَّما تقدَّمتْ بهم السنُّ، ولهذا فإن المبدعين أُناسٌ يعيشون في شبابٍ مُتجددٍ دائم.

الحبُّ والوفاءُ والشبابُ الدائم

       ولعلَّ هذا هو سرُّ الشبابِ الذي يعيشهُ الأستاذ عبدالله صالح حداد، فقد رأيناه بتقدمهِ في السنِّ يزدادُ اتقاداً في فكره، ويزدادُ عطاءً في مؤلفاتِه، ويزدادُ ثراءً بنوع الإبداع الذي يقدمهُ في هذهِ المؤلفاتِ؛ ولهذا فإنَّني أعدُّ عبدالله صالح حداد مؤرخاً مفكراً بهذا المعنى الذي وصفناه، سخرَّ فكرَه لخدمةِ تاريخِ وطنهِ وخدمةِ تراثِ هذا الوطنِ، وخرجَ لنا بدراسةِ موضوعاتٍ لم يسبقْهُ إليْهَا غيرُه.

     وقد خصصَ عبدُ الله صالح حداد كلَّ مساحةِ فكرِهِ، وشحذَ كلَّ همةِ قلمهِ لخدمةِ تاريخِ وتُراثِ حضرَمَوْت، وإنصافِ الأفذاذِ من رجالها.  ولا عجبَ في ذلك، فحضرموتُ عشقهُ الذي لم يُبدِّلْ بهِ بديلاً في حياتهِ، فقد جرَّبَ الاغترابَ في باكرِ شبابهِ، ولكنَّهُ سرعان ما عفَّ عن الاغترابِ ومغرياتهِ، وعادَ الى وطنهِ الذي يعشقهُ مُهرولاً.. عادَ إلى حضْرَموْتَ حبًا فيها، وإلى مدينةِ الشحرَ مسقطِ رأسِهِ؛ شوقًا إليها في حين كان غيرُه من أبنائها يغادرُها.. !

            أمضى عبدالله صالح حداد حياتَهُ كلَّها في حضرموت.. في مدينةِ الشحرَ لا يبرحُها إلَّا في زيارةٍ عاجلةٍ إلى إحدى المدنِ أو القُرى المجاورةِ ثمَّ يعودُ إليها مشتاقًا، ولسانُ حالهِ يقولُ ما قالهُ المحضارُ ابن الشحر الخالد:

أمي الشحر والوالد جبل ضبضب

——————- وابني الحيد لسود وابنتي ضبه

كلما جيت لهم قالوا: هلا مرحب

——————- عش هنا بيننا لا تنزل الرحبه

با نسايرك على سيره وخبّه

——————- ظننا فيك طول الوقت ما با يخيب

في قصر الباغ رأيته لأول مرة

      هذا لسانُ حالهِ أكادُ اسمعهُ بصوتهِ وأنا على البُعدِ وهو قريب، نعمْ .. هذا هوَ عبدالله صالح حداد الذي كنا نُتابعهُ على سيرهِ وخبهِ، وظننا فيهِ لم يخبْ.. عبدالله صالح حداد في ذلكَ الحبِّ للوطنِ مثلهُ مثلُ الأفذاذِ منْ أبناءِ الشحرَ الأبرارِ الذينَ رفضوا كلَّ مغرياتِ الغُربةِ، وآثروا ضنكَ العيشِ في أرض الوطن على بحبوحة العيش خارجه، وسار في ذلك على خُطى الذين جايلهم واعتبرهم اساتذته وقدوته في الوطنية والإبداع والعطاء الجاد المخلصِ مثلَ حسين أبوبكر المحضار ومحمد عبدالقادر بامطرف ود.سعيد عبدالخير النوبان وعبدالله عبدالكريم الملاحي، وعبدالرحمن عبدالكريم الملاحي وغيرِهم..

 

وتعرضَ عبدالله صالح حداد لمعاناةِ الشعورِ بالاغترابِ في الوطنِ خلال فتراتٍ من الظروفِ القاسيةِ التي مرَّتْ بها بلادُنا ولا تزال.. ولكنه احتملَ تلكَ المعاناةَ كما احتملها أفذاذُ الرجالِ من قبلهِ ومعهُ، وواصلَ العطاءَ كما واصلوا، ولا يزال باركَ اللهُ في صحتهِ وعمرهِ وفكرهَ.

           عرفتُ الأستاذ عبدالله صالح حداد قبلَ أكثر منْ خمسينَ عامًا، فقد انتقلنا في الصف الخامس الابتدائي سنة 1970م  – استثناء- من مدرسةِ مكارم الأخلاقِ إلى قصرِ الباغ، وهناك رأيته لأول مرة، وعرفته عن بُعد فقد كان يعملُ في مختبرِ المدرسةِ الثانويةِ في الباغ كما أذكر. ثم عدنا سنة 1971م؛ لدراسةِ الصف السادس الابتدائي في مدرسة مكارم الأخلاق ثم ننتقل سنة 1972م لدراسةِ المرحلةِ الإعدادية كاملة في قصر الباغ.

 

  عرفتُ الأستاذ عبدالله حداد شخصيًّا سنة 1972م، كنت وقتها في الرابعةِ عشرةَ من عمري، في الصف الأول الإعدادي بعد الانتقال إلى مدرسة الباغ. ورغم أني كنت في سن صغيرة آنذاك إلا أنني كنتُ أراسلُ الصحفَ والمجلاتِ واشترك في المتيسر منها الذي يصل إلى (مكتبة لرضي)، رحم الله صاحبها، المكتبةُ الوحيدةُ في الشحرَ آنذاك، واشتري من مصروفي اليومي مجلاتِ المصور وآخر ساعة والهلال وغيرها من المجلات المصرية والكتب التي تصل للشحر.

       وفي هذه الفترة نُشر أسمي في مجلة «الموعد» اللبنانية باعتباري ضمن أسماء هواةِ المراسلةِ وجمعِ الطوابع. ولا زلت أذكر كأنه بالأمس حين جاء الأستاذُ عبدالله صالح حداد إلى بيتنا المجاور لمدرسة مكارم الاخلاق، كان الوقت في عصر يوم من أيام خريف سنة 1972م، قيل لي: إنَّ الأستاذَ عبدالله حداد يطلبك عند الباب، فخرجتُ إليه، وتحدَّثَ معي، وقالَ إنه قرأ اسمي ضمن هواة المراسلة، وطلب مني بعضَ العناوين أو بعضَ أعداد المجلة. وكانت تلك أولُ مرةٍ أتحدثُ معهُ.. وكان ذلك لطفًا منه، وكان ذلك في نظري شيئًا كبيرًا حين يسأل الأستاذُ عن تلميذ.. !

 

 وبعد إكمالي المرحلة الإعدادية سنة 1974م حدث أن غادرتُ وطني في غربتي الطويلةِ التي لا زالتُ مستمرة منذ ثمانية وأربعين عامًا. وفي سنة 1980م عدتُ في زيارة للوطن بعد غياب، فزارني مع الأستاذ عبدالرحمن الملاحي - رحمة الله عليه ورضوانه - زيارةً سعدت بها ومنذ ذلك التاريخ نشأت بيننا أخوَّةٌ واعية، وأهداني أول مطبوعةٍ تُنشرُ له بعنوان (رقصة العدة الشعبية) التي صدرت عن المركز اليمني للأبحاث الثقافية في ذلك العام 1980م، ولازلتُ أحتفظ بها إلى اليومِ ضمن موجوداتِ مكتبتي الأولى في الشحرَ بإهداءٍ جميلٍ بخطه.

الفرق بيني وبينه

       ثم توثقت بيننا الصلةُ حيث كنا نجتمع في بيتنا، وأصبح يزورني مع الأستاذ عبدالرحمن الملاحي رحمه الله، ونلتقي مرارًا في الفترات التي أعود فيها للوطن في زياراتٍ متفرقةٍ ابتداءً من سنة 1985م خلال غربتي في الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال دراستي العليا، ثم طوال سنواتِ غربتي بعد عودتي من أمريكا -إلى اليوم، وكان معظم حديثنِا في التاريخ والتراث، وهما محور اهتمام الصديقين - الأستاذين الملاحي وحداد، فقد كان هذان الرجلان المثقفان ثنائي التاريخ والتراث في مدينة الشحر.

    ومن حين لآخر، وكلما اتيحت لي الفرص كنت أجد في الاطلاعِ على ما يخطه لنا يراعُ الصديقِ العزيزِ الأستاذ عبدالله صالح حداد سواء المطبوعات التي يُهديها لي أو التي اطلع عليها من بعيد نفحةً من نسيم الشحرَ تحركُ لواعجَ قلبي شوقًا إليها. وقد باعدت بيني وبين عبدالله صالح حداد الأيامُ والشهور والسنون، ولكنها لم تستطع المباعدة بين قلبين اجتمعا على حبِّ الشحر مسقط الرأس، ومغنى الصبا، ومهوى الفؤاد، على أن الفرق بيني وبينه أنني مغتربٌ وهو مقيم.. 

  وعبدالله صالح حداد أفضل مني في هذا الحب  العظيم للشحر، - وأسعد حالاً مني في لزوم الوطن .. ! ولا يعجب أحدٌ من قولي هذا، فالعيش في الوطنِ سعادةٌ لا يعرف لها قدرُها إلا من ذاق مرارةَ الغُربة، واكتوى بنارها، وللعرب في ذلك حكمةٌ، فقد قيل لأعرابي: «ما الغبطةُ؟» قال: «الكفايةُ في الرزق مع لزوم الأوطان». وهذا سر السعادة التي يعيشها عبدالله صالح حداد، والتي يعيشها كل مواطن على أرض وتعيشونها أنتم ولكن لا تشعرون بها.. !

خدمته لتراث - الشعر الشعبي

  يرتكز النتاج الفكري للأستاذ عبدالله صالح حداد منذ أول عملٍ خطه قلمه على قدمين هما التاريخ والتراث. والتاريخ والتراث توأمان لا يمكن فصلهما، فإذا كان التاريخ هو توثيق ٌعلميٌ للأحداث، فإن التراث وخاصة التراث الشعبي، الذي اهتم به عبدالله حداد، هو الوجه الآخر للتاريخ، أو الذاكرة الشعبية لما لم يُدوِّن تفاصيله التاريخ.

      و أعمال عبدالله صالح حداد كلها تُولي اهتماما أكبر بالتراثِ الشعبي لتوثيقه وحفظهِ من الضياعِ؛ لهذا رأيناه يبدأ بالتأريخ لـ (رقصة العدة الشعبية) سنة 1980م، ثم (الرقص الطقوسي) سنة 1983م.  ثم يخرج لنا بعملٍ نادرٍ وهو كتاب (الابتهالات والمدائح في حضرموت) سنة 2018م، ويٌصدِر لنا تاريخَ رقصةٍ شعبيةٍ عريقة في التراث الحضرمي فنرى كتاب (الشوا ني .. رقصة شعبية حضرمية) سنة 2019م ثم كتابه المميز في موضوعه (زيارة الشحر وصاحبها العطاس)  الذي صدر سنة 2020م.

خدمته لتاريخ الشحر

      وفي التاريخ له عدة مؤلفات افتتحها بالتاريخ لجانبٍ مجهولٍ من تاريخ مدينة الشحر، وأصدره في كتاب بعنوان (الاستحكامات الدفاعية في حضرموت، مدينة الشحر نموذجا)، وبعد ذلك نجده يتوقف ببرٍ ووفاءٍ عظيمين للشحر، فيؤرخ لملمحٍ مهمٍ من تاريخها الثقافي حين يُصدر كتابه (المكتبة السلطانية بالشحر) سنة 2019 فيُعيد ذكراها الى الحياة بعد أن اندثرت ونُهبت وبُددت كُتبها جهلاً وسفاهةً. 

         ويبلغ حبُّ عبدالله صالح حداد لمدينةِ الشحر قمتهُ بالوقوف ملِيًّا عند تاريخ مساجد الشحر العريقة –  المساجد التي – واأسفاه-  دُمرتْ مبانيها التاريخية من الذين أساءوا وهم يظنون أنهم يُحسنون صُنعًا، وفقدنا بزوال مباني هذه المساجد أثرًا جميلاً وثمينًا من كنوز آثار الشحر التاريخية.  ولكن عبدالله صالح حداد جعلني أشعرُ ببعض العزاءِ في حفظ تاريخِ هذه المساجد في كتابه (تاريخ مساجد الشحر وأصحابها) الذي صدر سنة 2021م. ويستكمل ملامحَ هذا الحبِّ العظيمِ للشحر بتحقيق مسرحية بامطرف (سور الشحر) سنة 2021م.

خدمته لأعلام الشحر وحضرموت

          وليستكمل عبدالله صالح حداد رسالته نحو تاريخ وتراث وطنه، نراه يقف وقفةَ وفاءٍ متأنيةٍ عند بعض أعلامِ حضرموت عامة وأعلامِ الشحر خاصة، وقد بدأ وقفته هذه مبكرًا مع أعلام الشحر، التي لا يبدأ  عنده قبلها شيء في حياته وفكره، فأخرج لنا كتابه  (الشاعر الشعبي فرج احمد بلسود) الصادر عن المركز اليمني للأبحاث الثقافية سنة 1983م، وفيه دراسةُ رائدةٌ حفظت حقَ هذا الرجل الشحري في البقاء في ذاكرة التاريخ. ويعقب ذلك بما كتبه عن (باحسن الرائد الفنان) سنة 1985م. ثم يقف وقفةً رائعةً مع رجلٍ من أبناء الشحر، هو مدرسةٌ وحدهُ، وذلك في دراسته عن (الشاعر المؤرخ سعيد عوض بامعيبد .. حياته وشعره). ولا ينسى أبناءَ الشحر المهاجرين فيصدر كتابه (رجال الشحر في شرق افريقيا) سنة 2006م.

         ثم يؤدي واجب الوفاء نحو الشخصياتِ المجهولةِ في تاريخِ وتراثِ حضرموت فيخرُجُ لنا بكتابه الذائع الصيت (معجم شعراء العامية الحضارم) سنة 2016م، وكتاب (السفينة المجموعة في نسب بعض القاطنين في وادي حضرموت).

          وعلى مدى ثمانية وأربعون عاما من تاريخ مغادرتي لمسقطِ رأسي الشحر الحبيبة كان عبدالله صالح حداد يواصل الكتابةَ والنشرَ بهمةٍ عالية متجاوزًا كل العقبات التي تقفُ في طريقه، لا يتوقف عن حمل القلم في أوقات الظلام والنور، فظلَّ يكتبُ في أوقات العسر واليسر، وفي كل هذه الظروف كان يجني ثمارَ فكرهِ، ويقدمها لأهل الشحرَ الذين أحبهم، وكأن المحضار الخالد عبَّر عن لسان حال عبدالله حداد في هذه الفترة حين قال:

نا لي تعودت أجني الجوز والهيل والورد المعطر

وأشل قسمي بلا ميزان أو كيل وقت الخير والشر

حاشا علي يوم نتأخر

با سير عا لدرب وعلى الله قصد السبيل

         وسيظل عبدالله صالح حداد يتألق شبابًا في فكره، ويعدُ بالمزيد من العطاء الجاد المثمرِ حتى يرسم لنا ملامحَ تاريخِ الشحر كاملةً.. فقد أحب عبدالله صالح حداد الشحر حتى لم يعد في قلبه سعةُ لحب مدينةً غيرها، فأجرى هذا الحب مدادًا في قلمه فكتب عنها بصدق، وجعل هذا الحب يملأ قلبه فتغنى بها، وأحس أن الكفاية بها فعاش في «سعاد» سعيداً، وأذكر أني سألته ذات يوم إن كان راوده مرة هاجسُ السفر ومغادرة سعاد الشحر قال لي:

بلاد ألفناها على كل حالةٍ وقد           يؤلف الشيءُ الذي ليس بالحسنِ

وتُستعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها    ولا ماؤها عذبٌ، ولكنها وطن.