مسافة بيننا وبينه..متى نقطعها إليه؟!

اليمن العربي

لم يكن عنيفاً ولا عنيداً ولا متجبراً متغطرساً .. لم يكن مستبداً برأيه متسلطاً، ولا مغروراً متكبراً.. لم يستغن بإنسان أو رأي قط، ولم يسفه أحداً رجلاً أو امرأة أو صبياً، ولم يقل لمخلوق على شيء فعله لم فعلته أوعلى شيء لم يفعله لم لم تفعله، لم يكذب في حياته أبداً ولو مزاحاً، لم ينكث عهداً ولا أخلف وعداً، ولم ينتقم لنفسه في أمر من أمور الدنيا، ولا عاقب مخلوقاً أساء إلى شخصه.. لم يخطر بباله غدر ولا مكر ولم تترسب في قلبه ذرة حقد، ولا حاك في صدره إثم، لم يسئ الظن بعبد من عباد الله، ولم يتتبع عورة أو يهتك ستراً أو يحض عليه.

لم يُسكت إنساناً تكلم أو يقاطعه بل يستمع له حتى يتم حديثه، ولم يُهن مخلوقاً حتى لو أساء إليه.. لم يجادل حتى وهو محق واعداً ببيت في وسط الجنة لمن ترك الجدال وهو محق. لم يغضب إلا لله وفي الحق والدين.. من أشد الناس كظماً للغيظ وعفواً عن الناس.. ما أساء إليه أحد إلا وتسامح معه وأحسن إليه، وما بات ليلة وفي قلبه موجدة على مسلم.

لم تصدر منه يوماً كلمة نابية في حق إنسان، ولا لوث لسانه بغيبة أو قلبه بريبة.. لم يشهد رواة حياته أنه عاتب أحداً من أصحابه أو لامه.

كان أزهد خلق الله في أمور دنياه.. عفيفاً، كريماً يجود بآخر ما في بيته ويبيت على الطوى، لم يرد سائلاً قط حتى لو علم أنه لا يستحق، لم يرجع من بابه أحد قط حتى ولو شق عليه ذلك وآذاه في أوقات قيلولته وراحته وأوبته إلى أهله، ولم يرتفع صوته على زواره الذين كانوا يتجرأون برفع أصواتهم عليه .. رأف ربه به وأنزل في أدب التعامل معه قرآناً من فوق سبع سموات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1-5) سورة الحجرات.

قيادته شجاعة وشخصيته نموذج في الإقدام إلى مواقع الخطر قبل جنوده وأتباعه.. فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأحد أصحابه، في عنقه السيف وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا) رواه مسلم في كتاب الفضائل.

رحمته سر عظمته.. رحمته تزري بواقع القسوة والغلظة والعنف الذي ينتشر في حياة أناس من أمته يدعون أنهم يعملون بسنته..

سأله بعض أصحابه أن يدعو على قريش بعد غزوة أحد، فقال: (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة) أخرجه مسلم..

أرق الناس قلباً، كان يسمع بكاء الصبي مع أمه، وهو في الصلاة، فيقرأ السورة الخفيفة (أخرجه الإمام أحمد في المسند).. أرحم الناس بالصغير والضعيف والمسن والمريض وأخفهم عبادة إذا صلى بغيره وإذا صلى منفرداً أطال.

حليماً لا يستجيب لانفعالات ردود الغضب ساعة الإساءة إليه بكلام أو سلوك.. تطاول عليه أعرابي بيده فجذبه جذبة عنيفة من ثوبه الخشن، أثرت على عاتقه، وجرحه بلسانه إذ قال له: احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل من مالك، ولا مال أبيك. فسكت عنه ولم يرد عليه في الحال ثم قال له: (لا، واستغفر الله.. لا، واستغفر الله، المال مال الله، وأنا عبده، ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟ فيقول الأعرابي : لا. فيقول له: ولم؟ فيقول الأعرابي: لأنك لا تكافئ السيئة بالسيئة!

لم يأمر نبي الرحمة والحكمة والحلم بحبس الأعرابي أو عقابه أو حرمانه على تطاوله على رئيسه وزعيمه بل ونبيه الذي أرسله الله إليه بل قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لأحد أصحابه: (احمل له على بعيريه هذين.. على بعير شعير، وعلى الآخر تمراً) (رواه أبو داود في كتاب الأدب).

بهذا التف حوله الناس، أحبوه، وآمنوا بدعوته لصدق كلمته وعظيم مسلكه، وطول صبره عيلهم واتساع رحمته لهم، ورفقه بهم، ولينه معهم وقد خاطبه ربه واصفاً سر نجاحه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159) سورة آل عمران.

وهذا حق شهد الله له به في التوراة قبل القرآن حين وصفه بقوله (أنت عبدي ورسولي وسميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله - تعالى - حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتحوا بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه البخاري في الأدب المفرد).

نعم يا رسول الله لن تنطوي المسافة إليك حتى تفتح أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً في كثير من أبناء أمتك.. وصلوات الله وسلامه عليك يوم ولدت ويوم أرسلك نبياً ويوم يؤتى من كل أمة بشهيد فتكون أنت شاهداً علينا.