إخوان العراق حين يوظفون أنفسهم لخدمة تركيا

عرب وعالم

اليمن العربي

وظفت جماعة الإخوان المسلمين بفروعها المنتشرة في أغلب البلدان العربية خلال السنوات الأخيرة لخدمة تركيا التي حادت خلال العقدين الأخيرين عن النهج العلماني الذي كان أساس دولتها الحديثة، وتحوّلت الجماعة إلى جسر عبور لها لاختراق تلك البلدان والتغلغل في ساحاتها الداخلية تنفيذا للحلم الإمبراطوري لرجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الذي تختلط فيه أحلام الزعامة بالمطامع المادية والاقتصادية.

 

ولا تستثني تركيا من أطماعها العراق جارها الجنوبي الذي تحتوي أراضيه على ثروة نفطية هائلة، بينما يعيش حالة من الضعف والهشاشة تغري الطامعين في ثروته وتضعف ممانعته للتدخّلات الخارجية.

 

وفي حين تعوّل تركيا في تدخلها ببلدان عربية مثل سوريا وليبيا واليمن على جماعات إسلامية متشدّدة على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، يختلف أسلوبها في اختراق الساحة العراقية جزئيا، بسبب عدم وجود فرع إخواني وازن هناك يمكن الاعتماد عليه كما في الحالة الليبية واليمنية على سبيل المثال.

 

ولم يستطع إخوان العراق ممثلين بالحزب الإسلامي الذي تعود جذوره الأولى إلى أربعينات القرن الماضي، بينما يعود تأسيسه الفعلي إلى ستينات القرن ذاته، أن يلعبوا دورا أساسيا في حكم العراق بعد سقوط نظام حزب البعث سنة 2003 على يد الاحتلال الأميركي بسبب هيمنة الأحزاب الشيعية ذات الصلات القوية بإيران على مقاليد الدولة واحتكارها أهم منصب تنفيذي فيها وهو منصب رئيس الوزراء، ما جعل دور الإخوان في تجربة الحكم تلك دورا ثانويا مكمّلا وأقرب إلى الديكور في الديمقراطية الشكلية القائمة على المحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية.

 

وللحفاظ على حصّة في السلطة وما تدرّه من منافع وامتيازات مادّية ومعنوية، لم يجد إخوان العراق بدّا من التحالف مع الأحزاب الشيعية والدخول بالنتيجة في خدمة المشروع الإيراني الذي تعتمد طهران على تلك الأحزاب في تنفيذه ويقوم على توسيع النفوذ في البلد وتوطيده وصولا إلى الهيمنة على القرار العراقي السياسي والاقتصادي والأمني.

 

وتقيم الحكومات الإيرانية علاقات واسعة مع قادة الحزب الإسلامي في العراق الذين لا تنقطع زياراتهم لطهران وأيضا لقاءاتهم بالمسؤولين الإيرانيين في بغداد، وذلك على غرار العلاقات التي تربط بين إيران ومعظم القيادات السياسية السنّية العراقية.

 

 

في تقرير لمركز كارنيغي للشرق الأوسط يصف مهنّد سلوم الباحث المتخصّص في الدراسات العربية والإسلامية الحزب الإسلامي العراقي واجهة تنظيم الإخوان المسلمين، بأنّه “ضحية تعقيدات الساحة السياسية السنية العراقية ومآزق العمل في بيئة ذات استقطابات طائفية وإثنية متفاقمة”، مضيفا أنّه لم يتمكن من تعزيز شعبيته ولا يُتوقّع أن يستعيد دورا مهما في الحكم بالعراق.

 

ويقول في بحثه المعنون “عودة غير موفقة: ما أعطاه الحزب الإسلامي العراقي مقابل الوصول إلى السلطة” إنّ عدم تبنّي الحزب لخيار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة وحفاظه على علاقات جيدة مع نظرائه الشيعة والأكراد، سهّل عليه المشاركة في حكم العراق، مستدركا بالقول إنّ دوره كان ثانويا مقارنة بالأحزاب الشيعية الرئيسية.

 

ويضيف سلوم “دفع الحزب ثمنا باهظا، حتى قبل التراجع الكبير لشعبيته في أوساط المجتمع السني في انتخابات مايو 2018، لأنه فشل في الوفاء بوعوده في توفير الخدمات والأمن”.

 

والحقيقة أن تهاوي الشعبية قاسم مشترك بين الأحزاب الدينية في العراق، سنية كانت أم شيعية، وذلك بالنظر إلى تجربة الحكم الكارثية التي قادتها في البلاد على مدى 17 سنة وأفضت إلى تراجع رهيب للدولة على مختلف الصعد السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، حيث شكّلت تلك الأحزاب ماكنة فساد ضخمة أفقرت المجتمع وأنهكته إلى درجة الانفجار الذي تجسّد في الانتفاضة الشعبية التي تفجّرت في أكتوبر 2019 ولم تخمد بعد بشكل كامل رغم سقوط الحكومة السابقة ومجيء حكومة جديدة بوعود محاربة الفساد وتحسين الأوضاع الاجتماعية وبسط الأمن واستعادة هيبة الدولة.

 

ويرد في بحث مركز كارنيغي أنّ “الجمهور العراقي محبط من الحزب الإسلامي وحزب الدعوة الإسلامية الحاكم (حتى سنة 2018) بسبب فشلهما”.

 

وفي مظهر على تهاوي شعبية الحزب الإسلامي في الأوساط السنية بالعراق، وخصوصا قياداته الأكثر انخراطا في تجربة الحكم الفاشلة، لم يستطع سليم الجبوري النائب السابق لأمين عام الحزب أن يحافظ على مقعده في البرلمان الناتج عن انتخابات سنة 2018، بعد أن كان قد ترأس البرلمان السابق في إحدى أحلك المراحل التي مرّ بها سنّة العراق بسبب الحرب التي دارت ضدّ تنظيم داعش في مناطقهم بين سنتي 2014 و2017 وفقدوا خلالها الكثير من أبنائهم ودمّرت مدنهم وقراهم وهجّر منهم الآلاف، بينما لم يكن لوجود الجبوري في ذلك المنصب المهمّ دور في حماية أبناء طائفته وفي التخفيف من معاناتهم، بل كان في تناغم تام مع السياسات المسطّرة من قبل الأحزاب الشيعية بما في ذلك طريقة إدارة الحرب والتعويل في خوضها بشكل أساسي على العشرات من الميليشيات التي أساءت معاملة أبناء المناطق المحتلة من قبل داعش واعتبرتهم في الكثير من الأحيان متواطئين مع التنظيم ومحتضنين له.

 

 

 

وبغض النظر عن الكيفية التي يفسر بها الحزب الإسلامي العراقي مكانته المتدنية بين أوساط السنة -يضيف مهنّد سلوم- فقد عانى الحزب بالفعل من الفشل في الوفاء بالوعود لحماية المجتمع السني وتوفير الخدمات وتحسين نظام الحكم. ويلقي منتقدوه من السنّة باللوم عليه لفشله في حماية أبناء الطائفة السنّية خلال العنف الطائفي بين العامين 2006 و2009 بعد تفجير مرقد الإمام العسكري في سامراء حيث تم إعدام الآلاف من السنة على أيدي ميليشيات شيعية تابعة للحكومة وتهجير عشرات الآلاف من الأهالي ما أدى إلى تغييرات في التركيبة السكانية في محافظات كبرى مثل بغداد وديالى.

 

وخلال تلك الفترة، كان أكبر مسؤول حكومي سني هو الأمين العام للحزب الإسلامي العراقي، طارق الهاشمي، الذي كان يشغل منصب نائب لرئيس الجمهورية، قبل أن يختلف مع رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي ويصبح مطاردا بتهمة الإرهاب ويصدر عليه لاحقا حكم بالإعدام.

 

ولجأ الهاشمي إلى تركيا التي سمحت له بالإقامة على أراضيها ورفضت تسليمه لسلطات بلاده، لكنّها لم تستطع في الوقت نفسه تحويله إلى حالة سياسية مؤثّرة على الداخل العراقي كما تفعل اليوم مع عناصر وقيادات إخوانية من عدّة بلدان عربية مقيمة في إسطنبول ومنخرطة بالكامل، سياسيا وإعلاميا، في مشروع التدخّل التركي بتلك البلدان، بل بينها من ينسّق بدعم وتمويل قطري التدخّل العسكري التركي في بعض البلدان.

 

 

تفسّر العوامل آنفة الذكر قلّة اهتمام تركيا بإخوان العراق وبالقادة السنّة على وجه العموم وعدم تعويلها عليهم في منافسة النفوذ الإيراني في البلد، وتفضيلها التعامل بشكل مباشر مع الأحزاب القائدة لحكومة بغداد المركزية ولحكومة إقليم كردستان المحلّية التي يديرها أكراد العراق في شمال البلاد، فيما تحاول بالتوازي مع ذلك التلاعب بورقة الأقليات معوّلة هذه المرّة على العامل العرقي والقومي وليس على العامل الديني والطائفي كما هو شأنها في توظيفها لورقة الإخوان المسلمين في بلدان عربية أخرى.

 

ويتّضح اللعب التركي على العامل القومي لمحاولة اختراق الساحة العراقية بشكل متزايد في التركيز اللاّفت من قبل أنقرة على ملفّ تركمان العراق الذين يمتلكون ميزتين لا تتوفران لدى غيرهم من مكوّنات المجتمع العراقي، أولاهما تواجد معاقلهم الأساسية في مناطق ذات أهمية إستراتيجية على رأسها كركوك إحدى أثمن “القطع” في الخارطة العراقية بما يحويه أديمها من مخزون نفطي ضخم، وثانيتهما منافستهم الشرسة لأكراد العراق الذين يظلّون في المنظور التركي موضع ارتياب بسبب نوازعهم الاستقلالية، وذلك على الرغم من أنّ أنقرة تتعامل في الوقت الحالي مع حكومتهم المحلية في إقليمهم بشمال العراق، لاسيما في مجال النفط الذي يصدّر من كركوك والإقليم عبر خط أنابيب يعبر الأراضي التركية باتجاه ميناء جيهان التركي على البحر المتوسّط.

 

وخلال السنوات الماضية لم تعد أنقرة تخفي تحريضها لتركمان العراق على لعب دور قيادي في كركوك أملا في تحكّمهم بنفطها ما سيسهل على تركيا الوصول إلى ذلك المنبع النفطي الغزير.

 

ومؤخرا كثّفت الجبهة التركمانية العراقية مطالبتها بإسناد منصب محافظ كركوك إلى المكون التركماني “بعد أن شغله العرب والأكراد طيلة 17 عاما الماضية”، وفق بيان صدر مؤخّرا عن رئيس الجبهة أرشد صالحي دعا فيه الأطراف السياسية العراقية إلى الحوار من أجل استبدال الإدارة المحلية بالمحافظة.

 

وفي تعليقها على البيان قالت وكالة أنباء الأناضول التابعة للحكومة التركية إنّ “ممثلي العرب والتركمان في كركوك يشكون من أن أغلب المناصب الإدارية المهمة في المحافظة مشغولة من جانب الحزبين الكرديين الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني”.

 

وعلى العموم تخشى تركيا وجود ثروة نفطية ضخمة من حجم تلك التي تحتوي عليها أرض كركوك بين أيدي الأكراد، ما سيشكّل أحد مقوّمات دولة مستقبلية لهم في المنطقة، وهي الفكرة التي تسبّب فزعا شديدا لأنقرة يدفعها إلى مقاومتها والتصدّي لها بمختلف الطرق، وإن بالقوّة العسكرية.

 

وتعكس تصريحات مسؤولين حزبيين وحكوميين أتراك نية أنقرة استخدام التركمان جسرا للتدخّل في قضية كركوك، حيث يقول دولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية إن الأقلية التركمانية العراقية التي تربطها صلات عرقية بتركيا لن تُترك لحالها في كركوك، مشيرا إلى وجود الآلاف من المتطوعين القوميين “المستعدين وينتظرون الانضمام للقتال من أجل الوجود والوحدة والسلام في المدن التي يقطنها التركمان خاصة كركوك”، فيما يقول الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن إن “كركوك فيها الأكراد وفيها العرب أيضا، إلا أن الهوية الأساسية لها أنها مدينة تركمانية”.

 

ويدعو مثقفون وقادة رأي عراقيون إلى عدم التهوين من أطماع تركيا في الأراضي العراقية، معتبرين التدخّل العسكري التركي المتزايد في العمق العراقي بحجّة مطاردة عناصر حزب العمّال الكردستاني المصنّف إرهابيا من قبل أنقرة، بمثابة جس نبض لردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية تمهيدا لغزو مناطق في البلاد واحتلالها عندما تحين الفرصة وتتهيّأ الظروف لذلك، على غرار ما فعلته تركيا باحتلالها أجزاء من الأراضي السورية مستغلّة ما آلت إليه ظروف البلد خلال العشرية الماضية.

 

ويستدلّ المحذّرون من هذا السيناريو بخارطة جغرافية متداولة في تركيا ويتم اعتمادها في التدريس ببعض المدارس التركية وتظهر فيها محافظات الموصل وكركوك وصلاح الدين ودهوك وأربيل والسليمانية العراقية، إضافة إلى أجزاء واسعة من سوريا، كجزء من الأراضي التركية.