قضية شعب الجنوب جزء من قضية الكل العربي

اليمن العربي

 للإنسانية تنظيم بنيوي حلقاته الشعوب والأمم والكل الإنساني. تعب الحلقة الأولى عن اقتسام وتحديد الحق في الأرض بين شعوب الأرض وسيادة كل شعب على أرضه وقراره السيادي المستقل عليها، فيما تعبر الحلقة الثانية عن القوة المعنية بخلق توازن مع الأمم الأخرى لحماية حقوق الشعوب المنضوية في تكوينها وفرض العدالة على مستوى الكل الإنساني. هذا التكوين البنيوي الإنساني قالت به الأديان السماوية وشكل محور وفكرة التاريخ البشري وإنجازه الاعظم. وهو حق قام عليه النظام الدولي الإنساني وأصبح يشكل جوهر ومضمون القانون الدولي الذي بات ملزما ومنظما للعلاقات بين شعوب العالم ودولها الوطنية المستقلة.

      هذا البنيان يختزل في جوفه فكرة التوازن بعناصرها الثلاثة: الحق، والقوة، والعدالة التي تحفظ الاستقرار الإنساني العالمي، دفعت الإنسانية ثمنا باهظا للوصول إلى ذلك. حيث وصلت إلى هذا الانجاز العظيم بعد قرون طويلة من الهمجية وفوضى الحروب التي حكمت التاريخ البشري .

      هذا الوضع الحقوقي والقانوني شكل اساسا للنظام الدولي القائم وأصبحت الإنسانية بفضله تتحدث عن النظام الدولي وعن الشرعية الدولية ومؤسساتها.

     طبقا لهذا التوصيف وجدت الشعوب العربية وبها تشكلت الأمة العربية وأصبحت الأمة ومكوناتها اجزاء في البناء العالمي الإنساني تؤثر وتتاثر بالكل الإنساني على استقرارها تستقر الإنسانية وبخللها يختل الاستقرار العالمي، وهذا يتوقف على وجود التوازن بابعاده الداخلية والخارجية .

     تاسس التوازن على الحق وتقابله قوة تعادل هذا الحق وبهما تعم العدالة. ويبنى التوازن المسؤول عن الاستقرار في العالم على ثلاثة مستويات: المحلي والإقليمي والدولي، فعلى المستوى المحلي تقوم الشعوب وتحفظ وحدتها واستقرارها على التوازن الداخلي بين مكونات الشعب الحغرافية والإدارية ثم يقام التوازن الإقليمي بين عدد من الشعوب المتجاورة وينشأ بينهم التعاون والتكامل ليؤلفوا مع بعضهم الأمة ثم تقيم الأمم فيما بينهما التوازن في بعده الخارجي الدولي ليعم بذلك احترام حقوق الأمم وشعوبها ويسود السلم والاستقرار في العالم .

  هذا هو الوضع المثالي الذي ينبغي أن يسود لضمان الاستقرار العالمي. إلا أن واقع الحال ليس كذلك، فما هو قائم هو اختلال الاستقرار في أكثر من مكان في العالم وما يهمنا هنا هو الفوضى والحروب وعدم استقرار اوضاع العالم العربي والنظام الإقليمي العربي .

     أين المشكلة..؟ فطالما والتوازن هو المسئول عن الاستقرار فإن باختلاله تعم الفوضى والحروب وينعدم الاستقرار.

      فالحادث اليوم هو وجود خلل في التوازن في بعده المحلي على مستوى الشعوب، خلل في التوازن الوطني الداخلي بين مكونات الشعوب الجغرافية والادارية نتج عنه خلل في التوازن الرأسي بين المجتمع والسلطة .هذا الخلل في التوازنات المحلية، وقد يصبح خلل في التوازنات بين الشعوب قاد إلى إضعاف الأمة واختلال توازنها مع الأمم الأخرى، الأمر الذي فتح الابواب على مصراعيها أمام أطماع الأمم الأخرى تجاه الأمة العربية وشعوبها.

     تشكلت الأمة العربية بوصفها ثمرة لتحالف الشعوب العربية المتجاورة داخل الجغرافية العربية في معارك الدفاع عن الوجود والبقاء، وتحفظ وجود وبقاء هذه الأمة ثلاثة أعمدة كبرى تقوم عليها، هي:

1- العمود الجغرافي المتمثل بوحدة الأرض العربية.

2- العمود العروبي ويتلخص في أن كل الشعوب العربية تنتمي للأرض العربية والى الفضاء الحضاري والعربي الواحد .

3- العمود الديني، ويشير إلى أن الأرض العربية ارض التوحيد ومهد الديانات السماوية، ولأن جميع الأنبياء والرسل ينتمون لهذه الأرض فأبناء هذه الأرض لايفرقون بينهم من عند ابراهيم الى محمد صل الله عليه وسلم، ويؤمنون بأن الله واحد والدين واحد وهو الإسلام فقد ساعد العشوب العربية على توحيد أنفسهم في أمة واحدة؛ فبفضل خلفياتهم الإيمانية يؤمنون بأن الله جعلنا في شعوب بها تحددت حقوقنا، ولحماية وصون هذه الحقوق أقامت هذه الشعوب علاقات التعاون والتكامل بحثا عن القوة فتشكلت الأمة العربية تجسيدا لمنعة وقوة العرب، فأصبحت هذه الأمة عنصر توازن مهم في حفظ الاستقرار العالمي.

     ويزيد هذه الأمة أهمية الموقع الجغرافي الذي وهبها إياه الله سبحانه وتعالى، الذي يحتل أهمية استثنائية في ضبط معادلات التوازن الجيواستراتيجي بين القوى الفاعلة في العالم؛ فهو يتوسط قارات العالم ويسيطر على أهم الممرات والمضايق المائية التي تمثل الشريان الرئيس لخطوط التجارة العالمية، ويختزن في جوفه اكثر من 50٪ من احتياط الطاقة التي تحرك الاقتصاد العالمي.

       هذه الأهمية رفعت من مكانة الأمة واعطتها شأنا رفيعا في معادلات التوازن الاستراتيجي بين أمم العالم، لكنها في الوقت ذاته مثلت السبب المباشر لجلب المشاكل لهذه الأمة، حيث تنظر القوى الفاعلة في العالم لجغرافية الأمة العربية بأنها تمثل مفتاح السيطرة على العالم وجعلت منها مسرحا لتنافس القوى الكبرى من فجر التاريخ الى اليوم بدءاً بصراع امبراطوريات العالم القديم مروراً بالحروب الدينية وصراع القوى الاستعمارية وحروب الوكالة بين القوى الكبرى في العصر الحديث.

     تبين التجربة التاريخية أنه إذا تم اصلاح التوازن الداخلي الأفقي والرأسي بين المكونات الجغرافية والإدارية للشعوب العربية وبين المجتمعات والسلطة السياسية داخل كل شعب تستقيم وتتماسك اجزاء الأمة، وتشكل أساس لوحدة الأمة وتوازنها الداخلي وتستعيد توازنها هي الأخرى مع الأمم الأخرى ويعم الأمن والسلام على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، والعكس صحيح تماماً، فقوة الأمة وقدرتها على التوازن مع الأمم الأخرى وحفظ حقوق شعوبها تكمن في قدرتها على حفظ التوازنات الداخلية داخل كل شعب وحفظ التوازن الخارجي بين شعوب الأمة والكف عن أطماع كل شعب آخر.

    تستمر القوى الكبرى ووكلائها في التنافس والصراع من أجل السيطرة على الجغرافية العربية موقعاً وثروات بوصف ذلك مدخلا للسيطرة على العالم والاستحواذ على القرار الدولي وذلك لن يتحقق لاي قوة إلا إذا سبقتها خطوات أضعاف الأمة العربية.

     وهو مايحدث اليوم على طول وعرض الوطن العربي، إذ نرى استهداف الأعمدة الكبرى التي تقوم عليها الأمة. حيث يستهدف العمود العروبي باحياء الاتينات وخلق الفتنة والصراع فيما بينها (كردي، عربي، امازيقي، ارمن،....الخ)، ويستهدف العمود الديني بتفعيل الصراع بين المذاهب داخل الدين وبين التيارات المذهبية داخل كل مذهب، وتلقائياً حيث تتمزق الأعمدة العروبية والدينية تتشضى الجغرافية ويتحول التعاون والتكامل بين الشعوب (مكونات الأمة ) الى تنافر وصراع بين مذاهب واتينات مختلفة داخل الشعوب، وينهار التوازن الداخلي داخل كل شعب وتنهار وحدة الشعوب (اجزاء الأمة )، وبانهيار الأجزاء ينهار الكل العربي (الأمة ).

      تُستخدم الثلاث القوى الإقليمية المحيطة بالأمة العربية (إسرائيل وتركيا وإيران) بوصفهم امتداد للقوى الكبرى كادوات لتفجير الصراعات ودعمها وادارتها داخل الوطن العربي تمهيدا لتمزيق الأمة واضعافها والسيطرة على الجغرافية العربية وما تختزنه من ثروات.

     هنا يتحول الصراع إلى صراع متعدد الأطراف:

أولا : الأمة العربية طرف يدافع على أرضه وتخوض صراع وجود ضد القوى الإقليمية المحيطة بالأمة الطامعة في اضعافها والسيطرة عليها وضد القوى الكبرى الداعمة لأطماع القوى الثلاث المحيطة بالأمة .

ثانيا: القوى الثلاث تخوض صراع فيما بينها حول مساحات النفوذ والاستحواذ داخل الأرض العربية .

ثالثا : صراع القوى الإقليمية الثلاث مع القوى الكبرى التي تتعامل معها بوصفها ادوات لتحقيق أهداف الكبار ولا تشترك معهم في اقتسام الثروة والنفوذ داخل الجغرافية العربية، فمهمتهم تمزيق الأمة العربية لتسهيل تقاسمها بين الكبار وينتهي دورهم عند ذلك.

رابعا : صراع القوى الكبرى فيما بينها على السيطرة على العالم العربي بوصف ذلك مفتاح السيطرة على العالم.

    المتأمل في المشهد العربي اليوم يجد أن الصراعات والحروب باشكالها المتعددة قائمة في معظم الدول العربية: في دول وشعوب حوض النيل، في دول وشعوب المغرب العربي، في دول وشعوب المشرق العربي، في دول وشعوب الجنوب العربي.

     نأخذ مثالا: الحالة اليمنية: بدلا مما كان الصراع بين شعب ودولة الجمهورية العربية اليمنية ودولة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بفعل فشل الوحدة المعلنة بينهما عام 1990، اخرج الصراع عن مداره وأصبح صراع مذهبي بين سُنة وشيعة في الجمهورية العربية اليمنية ومحاولات متكررة لجر دولة وشعب الجنوب إلى صراع ايديولوجي بين الاخوان الذين يدعون إلى وحدة إسلامية وتصادمهم مع الإرادة الشعبية لشعب دولة الجنوب الذي يطالب باستعادة دولته الوطنية المستقلة، لان الصراع بين الشعوب ليس له سند واقعي، لان الشعوب تعترف بحقوق بعضها البعض ليس في دولتي اليمن فحسب، بل في عموم الوطن العربي على أن يكون أساسه اتني، مذهبي أو ايديولوجي.

      هذا الوضع العربي المختل وما نتج عنه من تحديات وجودية كبرى امام العرب شعوبا وأمة يتطلب موقف عربي مشترك وتطوير استراتيجية عربية مشتركة لمواجهة التحديات والأخطار التي تحيط بالأمة وشعوبها تتدرج في اصلاح الوضع المختل بدءا بالمحلي ومرورا باصلاح النظام الإقليمي العربي وصولا إلى استعادة مكانة الأمة في معادلات التوازن الدولي.