نبيل الشرعبي صحفي استقصائي خسر عمله ولم يخسر ضميره المهني.. قصة تلخص واقع الصحافة في اليمن

أخبار محلية

اليمن العربي

في ظل السنوات العصيبة التي جرفت اليمن السعيد إلى سحيق تعيس يعج بالمحن والدماء والجوع والفقر والمرض كان لزاماً على الصحفيين أن يتعلّبوا داخل تيار أحد اقطاب الحرب، ويحبروا أقلامهم بالدم ليكتبوا أخبارا وتقاريرا ومعلومات تتناسب مع التوجهات السياسية التي يعملون لصالحها.

 

لكن أن يكون الصحفي رافضاً كل الرفض لكافة أشكال الحرب، والعنف والسيطرة على مؤسسات الدولة بقوة السلاح ويرى بأن الدمار هو الرابح الوحيد في المعركة فذلك سيجعله معزولاً غير مرغوب فيه من قبل كل الأطراف.

 

* الصحفي نبيل الشرعبي أول الضحايا

 

نبيل الشرعبي صحفي استقصائي يمني فقد عمله كمسؤول للقسم الاقتصادي في واحدة من أكثر الصحف اليمنية الأهلية انتشارا مطلع العام ٢٠١٥م بعد أن اغلقت الصحيفة ونهبت كل محتوياته، ومنذ ذاك بدأ رحلة بحث شاقة عن عمل يواجه به متطلبات الحياة.

 

اختار نبيل الشرعبي مهنة ما تزال في نظر الكثير من سكان منطقتنا العربية محل ازدراء وتحقير، لكنه بوعي الصحفي الانسان استطاع تجاوزها.

يقول نبيل الشرعبي " فقدت عملي كمسؤول قسم الاقتصاد في صحيفة أخبار اليوم اليومية بتاريخ 7 فبراير 2015م بعد أن اغلقت الصحيفة من قبل الحوثيين " .

 

ويضيف "ضاق بي الحال، ولم أجد من سبيل غير العمل بداية الأمر في محطة لمعالجة المياه وكان العائد لا يكفي لتوفير وجبات اليوم، وانتقلت للعمل في نقل الأحجار والبلاط وغيرها، إلا أن الأعمال بدأت بالانحسار وبالكاد تجد طوال الأسبوع عمل يوم وزادت حدة تدهور حالتي المادية".

 

وبعد رحلة عناء مضنية مر خلالها نبيل بعدد من المهن الشاقة توصل إلى فكرة جمع مخلفات البلاستيك وعلب المشروبات الغازية، يقول نبيل:" كانت فكرة مميزة ذات شقين الأول: إيجاد مصدر دخل ولو كان ضئيلاً، والشق الثاني: الاسهام في التخفيف من الأثار الكارثية لمخلفات البلاستيك على البيئة وصحة الإنسان والحياة العامة".

 

لم يتوقف نبيل هنا، بل كبرت الفكرة برأسه إلى مشروع أكثر قيمة، وكان كالعادة تفكيره أعمق واشمل، ومنطلقه وطني خالص يقول:" كانت فكرة حكومة النفايات وهي بمثابة حكومة بيئية اقتصادية تهدف إلى تنظيم العمل في حقل جمع النفايات وتحويلها من عبء على البيئة والحياة العامة إلى مصدر دخل اقتصادي لا ينضب" .

 

*ازدراء مجتمعي وإصرار على أسقاط النظرة الدونية

 

مجتمعيا لم تقبل الفكرة وتقبلها الكثيرون بشيء من السخرية والتهكم إلى الحد الذي وصل فيه البعض إلى تجنب مخالطة نبيل وفريقه وعدم مخالطتهم ووصفهم بألقاب مسيئة.

 

  • ويؤكد نبيل في هذا السياق " لم نستسلم للنظرة الدونية التي واجهتنا من كثير، ومضينا نعمل وتمكنا من استئجار محل وشراء عدة وسائل نقل يدوية لنقل ما نجمعه من مخلفات بلاستيك، وتوسع فريق العمل وانضم إلينا فريق نسائي وكان قد بلغ عدد قوام فريق العمل أكثر من 20 شخصاً، وتوسع النشاط إلى فتح مجال لشراء مخلفات البلاستيك من الأخرين، وخلال أشهر حققنا عوائد مالية مكنتنا من تسديد جزء من ديوننا الشخصية والعيش بكرامة".

 

ويواصل نبيل حديثه" كان ضمن خططنا العمل مؤسسياً، فأستئجارنا محل آخر وجمعنا فيهما مخلفات بلاستيك وكراتين بما يعادل مليوني ريال يمني- وتساوي بالدولار الأميركي 3.7 ألاف دولار-  على أمل أن يصل رأس المال إلى 10 ألاف دولار"

 

ويردف نبيل" كنا نطمح بشراء أدوات والتوسع بفتح محل أكبر، وفي احد الأيام  أبلغونا أشخاص أن المخزنيين يحترقا، كانت صدمة لنا، قررنا حينها إعادة ترتيب أولوياتنا والعمل مجددا"٠

 

انهار المشروع منذ عشرة أشهر وعاد نبيل إلى الشارع للعمل بشكل فردي في تجميع الخرداوات، لمواجهة متطلباته اليومية ويقول بهذا الخصوص" لم نتمكن من معاودة النشاط الجمعي، جراء ما خسرناه وأيضا كنا نفكر بنقل العمل إلى محافظة أخرى، إلا أن الأوضاع  الأمنية لم تتح لنا الانتقال. فيما المشروع ما يزال قائماً كفكرة وهدف ومشروع اقتصادي مجدي".

 

*بين ركام الوجع تتسامق أحلام العودة إلى العمل دون رقيب

 

سألناه عن ما إذا كان يفكر بالعودة للعمل الصحفي في الوقت الحالي أو مستقبلا ليتضح لنا انه ما يزال مواظبا على لياقته الصحفية، ولم تمنعه ظروف العمل الجديد وما يتطلبه من جهد شاق ومتواصل عن الكتابة وما يزال  يرسل مواد صحفية إلى عدد من المواقع لكن

دون أي مقابل مادي، وفي هذا السياق يقول:" لم أتوقف عن الكتابة الصحفية طوال الفترة بل وسعت نوافذ النشر، في عدد من  المواقع الالكترونية اليمنية"

 

ويتابع " أحاول التنويع في الفنون والكتابة الصحفية ما بين انطباع ومقال وتقرير وملفات صحفية وقصص إنسانية وغيرها، وإن كنت لا استفيد مادياً إلا أني أحرص على بقائي حاضراً".

 

ويضيف نبيل "5 سنوات مرت ولا أعرف كم تبقى لأعود إلى مزاولة العمل الصحفي الحر وغير المشروط.. إنني أفكر كل يوم بالعمل الصحفي وإيجاد نافذة إعلامية أعمل فيها بشكلٍ منتظم"٠

ويردف" طاقة إيجابية متجددة تغلي في داخلي توقاً إلى عمل صحفي يضع لي مكانة تليق بي كصحفي حيادي لا ينتمي إلا إلى مهنته".

 

* نقابة الصحفيين والدور المفقود

 

وعن الدعم والمساعدة المقدمين من قبل نقابة الصحفيين له يقول نبيل: " نقابة الصحفيين في الواقع حالها من حال البلد فقدت وظيفتها وكل ما بوسعها اصدار بيانات عما يحدث من انتهاكات.. عني لم تقدم لي شيئا"..

 

يلخّص نبيل واقع الصحافة في اليمن بسطر واحد كان ختام حديثنا معه بقوله" ما كان يسمى حقل إعلام باليمن قبل الحرب، غدت تحكمه مقصلة حريات وكسارة أقلام".

نقابة الصحفيين اليمنية تقف عاجزة عن تقديم العون والمساعدة حتى لأعضاء مجلسها وجلهم مهجرون في عدد من العواصم العربية والأوروبية.. الأستاذة فاطمة مطهر عضو مجلس النقابة اكتشفنا في بحثنا عن دور النقابة وما قدمته لنبيل الشرعبي اكتشفنا انها هي الأخرى تواجه مشاكل  قطع راتبها ومعها عدد من الزملاء في النقابة.. تقول فاطمة مطهر عن الصحفي نبيل الشرعبي: "نبيل طبعا واحد من أفضل الصحفيين المتمكنين والمتميزين بكتاباته والتقاطاه للمواضيع، وإلمامه حين يكتب موضوع أو مادة صحفية فهو متمكن ملم بالمعلومات ويكتب  بلغة سلسة وينتقي ألفاظه بشكل ممتاز في توصيف القضية التي يغطيها" وتضيف "أنا عضو في مجلس نقابة الصحفيين نشعر بالكثير من الخجل والأسى والحزن و الغضب على وضع نبيل وزملائنا الصحفيين المزري لكن هو في الأخير بلد بأكمله يعاني"

وعن ما يمكن أن تقدمه النقابة من دعم للصحفيين أمثال نبيل الشرعبي ونوع ذلك الدعم تكشف فاطمة مطهر عن معلومات صادمة عن واقع النقابة في ظل الحرب وانهيار مؤسسات الدولة وموت الضمير الإنساني تقول فاطمة مطهر :" بالنسبة للمساعدات، لا توجد شفافية و يوجد شخص واحد هو المتواصل مع المنظمات الخارجية هو أمين عام النقابة، وهو الوحيد المتصل معهم.. فنحن لا نعرف آلية التواصل ولا المبالغ التي تأتي وكيف يتم توزيعها" وتؤكد مطهر "بالنسبة لي أعرف آلية الاتحاد الدولي للصحفيين، وشروطه مشددة ولا يعطي  المساعدة إلا لمرة واحدة، ولست متأكدة من أي مساعدات عدا ما يقدمه الاتحاد الدولي للصحفيين، غير ذلك سمعت أن هناك منظمات  لكل منها معايرها ولا يتجاوز الدعم الف دولار ولمرة واحدة في السنة" وتفيد مطهر" هذه الحلول من وجهة نظري غير صالحة، لأنها حلول تسكينية وهناك عشرات ومئات الصحفيين الذين لديهم نفس أوضاع نبيل، ولو طبقنا معايير المنظمات فيجب أن يكون الصحفي مطارد و مهدد، مع أني أعتبر عدم وجود راتب هو تهديد حقيقي ليس للصحفي فقط بل لأسرته" وتنتقد فاطمة مطهر منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الإعلام بقولها:" منظمات الدعم والمانحين الدولية يدعمون منظمات مجتمع مدني، وهؤلاء للأسف يرفعون مشاريعهم باسم عدد من الصحفيين هم طلاب في السنوات الأولى في كلية الإعلام من أقاربهم أو معارفهم وذلك على حساب الصحفي الحقيقي الذي يكون غالبا مسؤول عن إعالة أسرته، وعلى منظمات المجتمع المدني أن تعمل بضمير لكي يشملوا صحفيين مؤهلين مثل نبيل، يمتلكون خبرة ومؤهلات وتجارب كبيرة" وبخصوص دور وزارة الإعلام تقول فاطمة مطهر :"لو كان لدينا وزارة إعلام فعالة لحلت حينها كل مشاكل الصحفيين، حتى نحن الموظفين الحكوميين تركونا بدون رواتب واحضروا أناس ليس لهم أي علاقة بالإعلام ومنحوهم وظائف وامتيازات كثيرة، وبالتالي نجد اليوم صعوبة كبيرة في مساعدة الصحفيين المتميزين أمثال نبيل الشرعبي"

 

 

الصحفي نبيل الاسيدي عضو مجلس نقابة الصحفيين اليمنيين يفيد بأن معاناة الصحفيين كبيرة جدا وتزداد يوم أثر آخر  بفعل عدم استعداد عدد كبير من الصحفيين المستقلين إلى الانحياز لاحد اقطاب الحرب، ويعدد جملة من المشاكل التي تواجه الصحفيين اليمنيين..يقول الاسيدي عن نبيل الشرعبي:" نبيل انموذج من نماذج كثيرة تركت الصحافة وعملت في مهن أخرى بالأجر اليومي كالعمل في البناء أو في المصانع وغير ذلك من الأعمال الشاقة وهؤلاء في الأغلب صحفيون مستقلون نأوا بانفسهم عن الصراع وحاولوا ان يكونوا احرارا في مواقفهم ولم يرضخوا إلى استقطاب أحد الأطراف "

 

ويضيف "الجميع يحارب الصحفيين فهناك الحكومة مثلا ترفض صرف الرواتب ودعم الصحفيين المستقلين وتريد ان يكونوا ابواقا لها، والجميع إجمالا يريد من الصحفي ان يكون بوقا له"

 

ويختم الاسيدي "هذه جرائم جديدة بحق الصحفيين تضاف إلى جرائم أخرى طالت الصحفيين في اليمن خلال خمس سنوات"

 

 

*موقف نببل للصحفيين لكنه دون جدوى

 

قصة نبيل الشرعبي اثارت تعاطفا كبيرا بين اوساط الصحفيين اليمنيين وعبر الكثير منهم عن استيائهم للواقع الذي تعيشه الصحافة، كما اشاد البعض منهم بالتجربة التي ابتكرها نبيل.

 

ماجد الداعري وهو رئيس تحرير موقع مراقبون برس يقول: "كل صحفي حر  يحترم مهنته واستقلاله في واقع بلد كاليمن، يمكنه أن يمر بواقع نبيل وأسوأ منه وقد يجنّ ويسجن ويعتقل أن سلم من الاغتيال لأن هذه ثمن الحقيقة في أي بلد تديره عصابات تتاجر حتى بهموم ومعاناة الشعب"

 

 

الصحفي صقر الصنيدي سبق له العمل لسنوات طويلة مع الزميل نبيل الشرعبي هو الآخر بدا أكثر حزنا لما وصل اليه نبيل الشرعبي قال  :" حتى اليوم لم أصدق أن الشاب الذي التقطت له مؤخرا صورة في شوارع صنعاء وهو يجمع علب الماء الفارغة ويحملها على ظهره هو زميلنا الذي عملنا معا لسنوات طويلة".

 

ويضيف "كان يكتب عن معاناة أولئك الذين يجوبون الشوارع بحثا عن علب البلاستيك وينشر شكواهم في صحيفة الأسبوع وغيرها، وفجأة اصبح منهم ولم أدرك ذلك إلا بعد أن أكد لنا أنه هو من ظهر في الصورة وأنه مستمر في هذا العمل الذي اجبر عليه".

 

 

الصحفي بسام القاضي رئيس مؤسسة الصحافة الإنسانية في اليمن تحدث بأسى عن واقع الحريات الصحفية في اليمن وما وصل اليه واحد من اكفاء زملاء المهنة يقول القاضي :" مأساة نبيل الشرعبي هي جزء من كل يعيشه  معظم العاملين في هذا الحقل الملغوم بالمخاطر وقد فقدنا منذ بداية الحرب قبل خمس سنوات أكثر من أربعين صحفيا قتلوا في جبهات مختلفة عوضا عن اعداد غير معلومة من السجناء والمختطفين لدى جهات عديدة"

 

من رحم  الحرب ولد جيش كبير ممن انتسبوا زورا للصحافة والإعلام ودون أي مؤهلات أو خبرات أو تجارب ترأسوا مؤسسات إعلامية كبيرة منها ما ينشر ويبث من صنعاء أو  وعدن، أو مأرب وهؤلاء جميعا بحسب الصحفي محمود الطاهر أكثر من استفاد من الحرب وأكثر من يمدها بأسباب البقاء من خلال نشر الفتن والاكاذيب وتأجيج الصراعات.

 

يقول الطاهر :" نبيل الشرعبي صحفي متميز ولهذا تمت محاربته من قبل كل الحوثيين والشرعية وحرم من أبسط الحقوق"، وأضاف الطاهر " حتى الدورات والمشاركات الخارجية عبر النقابة وجهات أخرى تم استثناءه منها مع انه افضل من يمثل اليمن، ويمتلك رصيد مهني يؤهله لحصد الكثير من الجوائز"

 

 

*تأريخ مهني ناصع وواقع أسود

 

وخلال مشواره المهني في بلاط صاحبة الجلالة أنجز نبيل عددا غير معلوم من التحقيقات الصحفية في شتى المجالات وكشف قضايا فساد كبيرة في مجال النفط والغاز والجمارك والضرائب والمواصلات والأشغال والصحة والتعليم وغير ذلك الكثير،

وفي العام 2014م كان ضمن قائمة أبرز عشر شخصيات يمنية في مجال مكافحة الفساد مما عرضه للكثير من المتاعب منها تعرضه للاعتقال 4 مرات وللضرب مرتين وعشرات التهديدات والملاحقات والايقاف والتفتيش.

 

وبرغم الظروف الصعبة التي مر بها ويعيشها حاليا الصحفي الاستقصائي نبيل الشرعبي إلا أنه ومثلما رفض الانحياز سياسيا لأي من أطراف الصراع في اليمن يرفض أيضا أن توظف قضيته سياسيا لصالح طرف ما، ويرى أنه ضحية واقع يلقي بظلاله السوداء على كافة جوانب الحياة في اليمن، وما يزال يتكبد مرارة العيش ضمن ملايين اليمنيين في العاصمة صنعاء.