كاتب: بعد صرع إدلب أردوغان أدرك أن لدى موسكو فائضاً من القوة

عرب وعالم

اليمن العربي

قال الكاتب عبدالحميد توفيق، "أدرك الرئيس التركي في خضم صراع الإرادات في ميدان إدلب أن لدى موسكو فائضاً من القوة يمكّنها من الذهاب بعيدا نحو تحقيق غاياتها وأهدافها السياسية دون التفريط بمصالحها الاستراتيجية مستندة بذلك إلى عامل القوة، بمفهومها العسكري، التي تحوزها براً وجواً وبحراً من جهة، وعامل القدرة بمفهومها السياسي".

 

 

وأضاف في مقال نشره موقع "العين الإخبارية" كان متوقعاً أن يخرج لقاء موسكو بين بوتين وأردوغان بتفاهم حول إدلب، ليس لأن المعادلة الجديدة التي تشكلت على أرض الميدان كانت متوازنة بينهما بل العكس هو الصحيح، أي اختلاف وتفاوت موازين القوة، وقد بدا ذلك عاملا مرجحاً لذلك الاتفاق غير النهائي وغير الحاسم... نعم؛ ليس من المعقول أن يفرط الطرفان ببساطة بما راكماه على مدار بضع سنين من الاتفاقات والتفاهمات والعلاقات السياسية والتجارية والاقتصادية المتنامية وتقاطع مصالحهما في استثمار التناقضات الدولية ضدهما، غير أن التوقف قليلا عند بعض الحقائق وبعض الوقائع الراهنة والتاريخية لدى كل طرف من شأنه تقديم كثير من التفسير لما جرى ونتج، منها لماذا وافق أردوغان على الذهاب إلى موسكو للقاء بوتين بعد أن تجاهل الأخير دعوة نظيره التركي للقاء ثنائي في إسطنبول وآخر على مستوى قمة رباعية تجمع إليهما زعماء فرنسا وألمانيا؟ لماذا ابتلع الرئيس التركي جميع تهديداته للجانب السوري وخطوطه المتعلقة بنقاط المراقبة وإنذاراته المحددة بزمن وتبخرت فجأة؟ أين ذهبت تحذيراته ومطالباته لبوتين "بالتنحي" عن طريقه في إدلب؟

 

ومضى مما لا شك فيه أن قوة وحجم الهجوم العسكري الذي نفذته القوات النظامية السورية بغطاء كثيف من القوة الجوية والصاروخية الروسية على مواقع المسلحين في إدلب واستعادتها ثانيةً مدينة سراقب الاستراتيجية وقتلها عشرات الجنود الأتراك الذين كانوا ضمن تجمعات المسلحين تضمنت رسائل أبعد من ساحات الصدام، إنها رسائل السياسة المستندة إلى ركيزتين راسختين هما القوة والقدرة اللتان شكلتا رافعةً أساسية في نهج بوتين وتعامله مع أردوغان في ساحة الصراع في عموم سوريا وبشكل خاص في إدلب وصولا إلى لقاء موسكو وما أفضى إليه من نتائج، بالمقابل بدا أن الجانب التركي يفتقر إلى مقومات القوة والقدرة التي تمتع بها "الشريك - الخصم" الروسي، والأمر لا يعود إلى افتقار أنقرة لعوامل القوة العسكرية والميدانية ولا لعدم وجود القادة العسكريين والسياسيين المخططين بقدر ما يرجع إلى افتقارها للحق الذي يشكل طرفا جوهريا في ثنائية القوة والقدرة، فالعلاقة جدلية متداخلة بين الحق والقوة؛ فلا حق يصان بدون قوة ولا قوة تقوم بدون استنادها للحق، وإذا كانت القوة تمثل دورا رئيسيا في السياسة فإن استعمالها دون الارتكاز على حق، كما هو الحال مع أردوغان، يتحول إلى نوع من العنف الذي يجر منفذه في كثير من الأحيان إلى التهلكة.

 

أدرك الرئيس التركي في خضم صراع الإرادات في ميدان إدلب أن لدى موسكو فائضاً من القوة يمكّنها من الذهاب بعيدا نحو تحقيق غاياتها وأهدافها السياسية دون التفريط بمصالحها الاستراتيجية مستندة بذلك إلى عامل القوة بمفهومها العسكري، التي تحوزها براً وجواً وبحراً من جهة، وعامل القدرة بمفهومها السياسي، أي الإرادة التي تسيّر القوة وتوظفها لتحقيق أهدافها بأقل قدر ممكن من القوات المستخدمة من جهة ثانية، وهو ما حققته روسيا عملياً في مواجهة أنقرة، فبدا أردوغان وهو يواجه هذه المعادلة في حالة أقرب ما تكون إلى التشوش والاضطراب تجلت في ردات فعله ومواقفه تصريحاً من خلال التهديد والوعيد، وعملياً عبر خطين أحدهما الاستنجاد بالناتو وواشنطن فلم يفلح، والآخر عبر إطلاق موجات اللاجئين ورعايتها باتجاه الحدود اليونانية متوهما بإمكانية استدراج عطف الأوروبيين أو الضغط عليهم لنجدته في مواجهة القوة الروسية الضاربة. 

 

أفصحت متلازمة إدلب العسكرية والسياسية عن محدودية القوة والقدرة التركية على حد سواء، فلا هي ترجمت أقوالها وتهديداتها استنادا إلى مفهوم القوة إلى نتائج على الأرض أمام القرار الروسي الحاسم بدعم القوات النظامية السورية والزحف على مناطق إدلب الخاضعة لسيطرة المسلحين بإدارة ورعاية تركية والتي لم تتمكن من حماية جنودها وبعض نقاط مراقبتها التي حاصروها حتى بعد مضي موعد الإنذار الأردوغاني نهاية شباط المنصرم، ولا هي تمكنت، استنادا إلى مفهوم القدرة، من توظيف ما تبقى بحوزتها من أوراق سورية في غرف مفاوضات موسكو، فأذعن أردوغان لشروط بوتين واعترف بالواقع الجديد على الأرض وبما أنجزته موسكو والقوات السورية هناك من رسم خطوط تماس جديدة، وقبول الجانب التركي الالتزام مجددا ببنود اتفاقيتي أستانة وسوتشي المتعلقة تحديدا بعودة الطرق الدولية إلى العمل.. ربما كان الاختبار صعباً على موسكو أن تذهب إلى ما ذهبت إليه عسكريا في إدلب، ولكن تجاربها السابقة في غير ميدان سوري مع أردوغان منحتها القدرة على اتخاذ القرار بتنفيذ سيناريو القوة وحققت مبتغاها فأماطت اللثام عن حقيقة وجوهر العقيدة العسكرية التركية أمام قوة عظمى عسكريا وسياسيا كروسيا، وبددت من جانب آخر الأوهام حول قوة الجيش التركي التي أشاعها إبان المواجهة مع القوى الكردية السورية على امتداد مناطق الشمال السوري، فلا مجال للمقارنة بين مواجهة مع قوى وفصائل مسلحة بأسلحة ذات طابع فردي وخفيفة "القوى الكردية" وبين قوة عسكرية بحجم دولة روسيا الاتحادية.   

 

واختتم مقاله ما بعد معركة إدلب، بمفهوميها العسكري والسياسي، لن يكون كما قبلها، فالروس امتلكوا زمام المبادرة على الصعيدين السياسي والعسكري في مواجهة أردوغان وترجموا ذلك عمليا، وتأكيدهم على وجوب استعادة دمشق سيادتها على كامل تراب سوريا موجه لأنقرة كونها الجهة الوحيدة التي تحتل أراضي سورية في الشمال وترعى جيوبا قليلة لما تبقى من المسلحين والإرهابيين من هيئة تحرير الشام في بعض مناطق إدلب ومحيطها وفي بعض مناطق شمال حماة وشمال اللاذقية، وأردوغان لن ينسى دور بوتين في مساعدته على حفظ ماء وجهه مرة أخرى في اتفاق موسكو غير الحاسم، وبات أمام واحد من خيارين فإما أن يتدرج في تلبية مطالب موسكو في عموم سوريا بالتفاهم والاتفاق بما يضمن له مصالح بلاده من خلال المسار السياسي، وإما أنه سيواجه استحضار موسكو مرة ثانية لمخزونها من القوة والقدرة لانتزاع ما تسعى إلى تحقيقه حماية لمصالحها وتنفيذا لتعهداتها في سوريا.