المصاصة والكرسي

اليمن العربي

أخبرتني جدتي ذات مرة أنه إذا كان في يدك مصاصة من السكاكر، ووقعت منك في الأرض لا تأخذها وتعيد مصها لأن الجني قد لحسها بلسانه..

لم أفهم ماذا كانت تقصد جدتي لصغر سني؛ فأنا حينها كنت جاهلاً وعمري لم يتجاوز الرابعة.

ذهبت إلى شيخاً عجوز كي استفسر منه عن ما كانت تقصده جدتي؛ فلعله يعلم أكثر منها ويفهمني ما قصدته الجدة التي لم أفهم منها شيئاً.

ذلك الشيخ العجوز حكى لي رواية عن طفل كانت بيده مصاصة من السكاكر يقوم بمضغها في فمة، ذهب الطفل إلى أصدقائه الثلاثة الذين كانوا يلعبون على مقربةً من منزله؛ فلما وصل الطفل إلى أصدقائه وهو يقوم بمضغ المصاصة، طلبوا منه أن يشاركهم..

ولكن الطفل رفض الطلب أصدقائه، وقال لهم بكل بجاحة: لن أشارككم مصاصتي؛ وذلك لأن السكاكر كانت نادرة في ذلك الوقت من زمان.

وبعد ذلك الرد القاسي من صديقهم، بدأ الشجار بين الأطفال حتى وقعت المصاصة على الأرض واتسخت بالتراب؛ بكئ الطفل بكئاً شديداً حتى فر جميع أولئك الأطفال وذهب كلاً منهم إلى منزله، وحينما أرد الطفل أخذ مصاصته من الأرض، سمع صوتاً من خلفه ينادي لا تأخذ تلك المصاصة فقد لحسها الجني بلسانه.

ذهب ذلك الطفل إلى منزله وهو حزيناً جداً على فقدانه تلك المصاصة، وطلب من أهله شراء واحدةً أخرى بدلاً عن السابقة؛ بعد أن روى ما دار بينه وبين أصدقائه..

الأهل بدورهم لم يتقبلوا ما جراء لأبنهم طالبوا برد اعتبار له من أطفال جيرانهم من خلال أولياء أمورهم..

وبمجرد أن تدخل أولياء الأمور بمشكلة الأطفال لم تنتهي تلك المشكلة وباتت تكبر شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت قضية كبرى لدى عشائر الأطفال الأربعة، ومن ثم الطوائف التي ينتمون لها، وأصبح كل واحد منهم يقتل الآخر. 

بعدها خفت أنا كثيراً حتى أصحبت أكره مصاصات السكاكر، وذلك بعد سماع تلك العواقب الوخيمة التي تحدث عنها ذلك الشيخ العجوز الذي أوضح ما كنت تقصده جدتي ولكن بطريقة يفهمها من في عمري؛ ينص مضمونها على أن لا تأخذ ما يسقط منك على الأرض فإن الجني يقوم بلحسه بلسانه.

وحينما أصبحت واعياً تذكرت تلك القصة وأدركت الحقيقة المؤسفة وهي أن جدتي، وذلك الشيخ العجوز، إضافة إلى صاحب ذلك الصوت التي تحدثت عنه الحكاية، كانوا بعيداً كل البعد عن الصواب..

فلو كان صاحب ذلك الصوت قد قال للطفل: خذ المصاصة من الأرض وذهب إلى بمنزلكم وغسالها بالماء جيداً ومن ثم أمضغها من جديد؛ لما حصلت تلك الأحداث التي تحدثت عنها الرواية.

يؤسفني كثيراً حينما أقول: إن السعي للكرسي والسلطة في معظم البلدان العربية والإسلامية، مثل الطريقة التي استخدمها الأطفال مع صديقهم صاحب المصاصة، وصاحب المصاصة مثل صاحب الكرسي يرفض مشاركته للبقية وكأنه كتب بأسمة، يقتل من يقتل المهم أن يظل جالساً عليه.

وعند ما يسقط منه مرغماً، يبدأ الشجار وتقوم الثورات لإستعادته من الذين يريدون أخذه منه بقوة السلاح، ولو باستخدام الأسلوب ذاته المهم أن يعود إلى ذلك الكرسي، وحتى أن كان ثمن الشعب أو الرعية، وذلك لأن التفكير ينحصر عند هذا المثل ( يموت الشعب ولا أرحل عن الكرسي ).

في اليمن, وسوريا, وليبيا,..., هكذا كان حال حكامنا المتمسكين بكرسي الحكم، غير أن صاحبي تونس, ومصر, كانوا أكثر وعياً من الحكام الثلاثة الذين جعلوا من شعبهم يذوق كل أنواع الآلام والمأسي في سبيل الحفاظ على الكرسي.

أولئك الحكام العرب لم يعلموا أن الكرسي مثل المصاصة، أن لم تقم بمشاركتها اندلعت الحرب بين الصغار، وأن سقطت على الأرض واتسخت بالتراب وتحفظ أن الجني لحسها، ومن ثم أبلغت الكبار ستلتهم نيران الحرب المنطقة ستموت فئة كبيرة من الشعب لأن الكبار منا لا يرحمون الصغار..

غير أن صاحب الكرسي لو كان يعلم أن المصاصة إذا سقطت على الأرض عليه أن يأخذها ويغسلها جيداً بالماء ومن ثم يمضغها، لما تسبب في ازهاق العديد والعديد من والأرواح البريئة من أبناء شعبة، ولا حظي بحب ورضاء الشعب بدلاً عن الكره الدفين الذي يحمله الشعب للحكام الظالمين.. وإنتهى.