رحلات ومفارقات عجيبة لا تخلو من النكتة !!

اليمن العربي

في أثناء تنقلاتي من منطقة لأخرى مستكشفاً .. وتلميذا يتعلم من كل ما حوله .. من الطبيعة أتعلم صمتها وجمالها الآخاذ.. من السماء الهدوء الذي يكسر حاجز الصمت .. من الحكماء القدماء الذين دفنوا في بطن هذه الأرض ، فغابت أجسادهم ، ولم تغب كلماتهم ومؤلفاتهم.. ومن الذين يشرِفُون على عتبات الموت ؛ ولكن عقولهم تزِن بأمة ، أو قل بجيلٍ من هذه الأجيال ؛ التي تعتبر في مجملها غثاء كغثاء السيل .

كنتُ ولازلتُ من هواة الترحال والاستكشاف رغم شحة الإمكانيات ، وجعلت من الهضبة الجنوبية لحضرموت هدفي الأساسي ، فرغم الأخطار الجسيمة في هضابها ووديانها ودوابها وحناشها ، لم أتراجع قيد أنملة ، عاتبني الأهل والأقرباء ، رحمةً وشفقة بحالي وجسمي النحيل ..ولكن العزيمة والتصميم والإرادة ، كانت بمثابة القوة والطاقة للاستمرار بعد معونة الله لي قبل كل شئ.

اكتشفت مالم يكتشفه غيري ، من مغارات عجيبة خضتُ غِمارها وسلكت سراديبها المخيفة ؛ فهناك هدم وانزلاق ، وجروح وخوف ؛ ولكن المغامرة تحتاج لكل هذا الإقدام والتحلي بالحكمة والصبر .

زادي قليل شربة ماء وكسرة خبز ؛ ناهيك أن معظم الترحال كان مشياً على الأقدام ولمسافات بعيدة وشاقة .. فقبل وصولك للهدف ورؤيته بالعين المجردة ، فهناك أهوالٌ وصعوبات تعترض طريقك ؛ من هوام وأفاعي ، وطقس بارد وقارس ؛ عليك أن تقاوم كل هذه المعوقات والصعاب وتتغلب عليها .

في عام 2008م اشتاقت نفسي لوادي حضرموت الداخل ، لأطوف بمدنها الجميلة والتاريخية.. فركبت سيارة ونفسي في شوقٍ ولهفةٍ إلى مدنها المشهورة.. كان الهدف الرسمي هو رؤية ( مسجد الحاوي بتريم) ذو الشهرة والصيت.. فحضرموت زرتها مرات كثيرة كعابر سبيل ، ولكن هذه المرة أتامل بعين البصيرة جمالها وسحرها ؛ الذي جعل الرحّالة الأجانب يغدقون في وصفها وجمالها وتاريخها التليد  ..فهناك ناطحات السحاب ؛ شبام المسوّرة بسورها البرليني ، وبيوتها التي تعانق السحاب في منظر رائع وجميل .. وهناك  تريم العلم والثقافة ، ففيها الكُتّاب والعلماء والمبدعين والشعراء  ..لن نطيل فالكلام ذو شجون وفنون .

وصلت الحاوي ورأيت مسجده العجيب الجميل هالني منظره ، فصرت فاغر الفاه ، مشدوه بتصميمه الرهيب .. ثم عرجت لمنارة المحضار ، وقصر سيؤون الشهير ، ثم عدت أدراجي.

في عام 1994م زرت مديرية حجر ، ورأيت نخيلها الباسقة ومناطقها وقراها ، وكتبت عنها استطلاع في مجلة حضرموت الثقافية في العدد التاسع لعام 2018 م ..وزرت المهرة وحوف ، وما أدراك ما حوف يعجز فيها الوصف ؛ لجمالها وسحرها ودلالها ، (من لا يعرف حوف فلم يزر اليمن ) ( ومن لم يزر تريم ؛ فهو عن المعرفة سقيم ) دعني أصفها هكذا .
في التسعينيات من القرن المنصرم ، زرت عدن في دراسة لي ولمدة عام ، وفي عدن الحبيبة يطول الكلام والوصف ، فهاف لندن لا تحتاج لوصف في زمانها ذاك ، وقد كتبت مقال مختصر عنها في صحيفة الأيام بعنوان ( هاف لندن ودموع الثكالى) .

من المفارقات العجيبة لرحلاتي والمضحكة والتي لا تخلو من الداعابة أحياناً ، وأحياناً أُُخر من الخوف والرعب .. فمن تلك المواقف المخيفة ..أثناء استراحتي من رحلة قصيرة ، جلست بين صخرتين كبيرتين ، وما أن تنفّست الصعداء ،  نظرتُ عن يمني ، وإذا بحيةٍ ضخمة في هدوء عجيب ، تنظر لي وكأنها ترحب بقدوم هذا الغريب ، الذي هرع لمخدعها بدون استئذان ، وكان بيني وبينها قرابة الذراع فقط ..ارتجف قلبي وتجمد الدم في عروقي ، فلا رفيق ولا صريق ، ولا أحد بالقرب مني ، لو حصل لي أي مكروه لا سمح الله ..فحافظت على هدوئي ، فأي حركة سريعة سوف تلدغني في لمح البصر ، ففكرت أنسل من جهة اليسار والتصق
بالصخرة ، ومن ثم انطلق كالفأر الذي يطارده القط ..ويا للهول ما أن نظرتُ على يساري بطرفٍ خفي حتى رأيت أفعى أخرى في نفس المسافة ونفس الحجم...لقد حُصِرتُ تماماً ..رغم الخوف والهلع ضحكت ، ولكن بتبسم كالليث للفريسة..وتذكرت قول الشاعر : 
إذا رأيت نيوب الليث بارزة 
فلا تظنن أن الليث يبتسم 

فكرت كيف الخروج من هذه المعركة ، والمأزق الذي وقعت فيه ، فقد كنت أعرف مسبقاً ، بأن أي حركة فهي أسرع مني ، ستظن المهاجمة وستدافع عن نفسها ..نظرت أمامي وإذا بعشبة ترياق السموم كإسعاف الطوارئ يرحب بي في حالة أي مكروه ..حمدت الله ؛ صرت أتقدم للأمام بالسنتيمتر الواحد حتى نجوت بأعجوبة .

وذات مرة أمطرت السماء بغزارة ، فهرعت لجحر بالكاد يغطي رأسي وظهري مُنحني ، وفجأة جاء نحوي عقرب كبير ، وكأنه دبابة روسية محاربة .. فمن الارتباك اصطدم رأسي بالصخرة ، وهو لا يتلفت لا يمين ولا يسار. كالفارس الذي يشق صفوف الأعداء ، هارباً من المطر ويريد جحر يخبئ فيه .. فليس معي إلا أن أدوسه بقدمي ، فيقع ميتاً في الحال واهرب بجلدي .

ونختم حديثنا بهذه الحكاية..دخلت إحدى شِعاب المكلا ؛أنظر لأنواع أحجارها ؛ لعلي أجد حجر ثمين كالزمرد أو العقيق أو الياقوت أو نحوها ..وفجأة شعرت بإطلاق نار فوق رأسي ، وعن يميني وشمالي خفت كثيراً ..ورأيت الموت أمام عيني ..هل قامت حرب قبل دخولي الشعب .. هل هناك ثار بين أحد وأنا كبش الفداء..تيممت سريعاً وصليت ركعتين لله ، وإطلاق النار لم يكف ..سمعت صراخ وصياح من حافتي..ثم صمت كل شئ..هرعت للحافة التي اسكنها..فوجدت أمي يكاد قلبها ينخلع..وعرفت بعد ذلك أنه شيخ الجبل ..رجل من المناطق الشمالية سيطر على شعب بأكمله ؛ والويل لمن اقترب منه ..طبعاً معه متنفذين كبار ...فقلت لأمي لن يطول به المقام وسيتولاه الله فهو شديد العقاب وجبار..وهذا الرجل بطش وتجبر..وفعلاً وجد بعدها مقتولاً في غرفته بإحدى شعاب المكلا ، فلم يكفيه الشعب الذي بجنبنا ، فتوسع لمناطق أخرى ..قتله طمعه وجشعه...

طبعاً من خلال كل رحلاتي ورغم الصعاب والأخطار الجسام ..لم تتوقف الرحلات ، فحب الاستطلاع والمعرفة يجري في دمي وعروقي..وخرجت بعدة فوائد منها .. تأليف كتب عن الأعشاب وبالأخص ما يهم الهضبة الجنوبية بحضرموت ..وكتاب عن الأشعار ورواية وغيرها ..الطبيعية تلهمك الكثير ولازلت في بداية الطريق ..