صحيفة: اتهامات زائفة للبنك المركزي اليمني .. خفايا – حقائق – فساد

تقارير وتحقيقات

البنك المركزي اليمني
البنك المركزي اليمني

شهدت اليمن حالة من الجدل الساذج اللامسؤول، وواقع من نوبات الهرج والمرج السياسي والاقتصادي، انعكس في فوضى إعلامية اقل ما يقال عنها إنها مأجورة، وتمثلت في سياق مسرحي رديئة التأليف والإخراج، حول "تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية".

وتعددت الأسباب التي تمت الإشارة إليها في التصريحات الرسمية او التغريدات او بوستات وسائل التواصل الاجتماعي، وفوجي الجميع باجتماع غير مسؤول لقيادة الحكومة في مقر البنك المركزي في عدن، وهو تجاوز دستوري وقانوني خطير، ضارباً باستقلالية البنك المركزي عرض الحائط، وتمادى ذلك بتشكيل لجنة برئاسة وزير غير مختص، واقل ما يقال عنه بأنه غير مؤهل للحديث في أي شأن اقتصادي فما بالك برئاسة لجنة تبحث تفاصيل مهنية غاية في التخصص والخصوصية. ولمناقشة أفكار ومقترحات لمعالجة الوضع الاقتصادي والنقدي في البلاد، كما جاء في حيثيات تشكيلها.

وفي حال تجاوزنا التطاول الحاصل على استقلالية البنك المركزي، والذي لابد وان يدرك رئيس الجمهورية خطورته، الا ان الإصرار على التطاول على البنك المركزي اليمني والهجوم الشرس الممنهج من قبل قيادات في الشرعية على شخص محافظ البنك المركزي اليمني. لهو أمر بحاجه الى التوقف والتمعن، والاستفسار الى أي مدى تعمل هذه الأطراف لمصلحة الشرعية اليمنية، وهي تستهدف الهجوم على شخصية مصرفية لها حضورها وتأثيرها الكبير، وتحظى أيضاً باحترام واعتراف وثقة جميع رؤساء الصناديق والمؤسسات المالية الإقليمية والدولية والبنوك التجارية والإسلامية المحلية والإقليمية.

منصر القعيطي رجل يملك ما يربو عن 42 سنة من الخبرة المصرفية في عضوية مجلس إدارة مصرف اليمن قبل الوحدة، وفي البنك المركزي اليمني بعد الوحدة، فهو عضو مجلس إدارة البنك المركزي منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وعضو سابق في اللجنة العليا للمناقصات، ورئيس سابق للمعهد المالي، ورأس مجلس إدارة بنك التسليف التعاوني الزراعي (كاك بنك) عقب تولي الرئيس هادي عام 2012م، وأخيراً كان وزيراً للمالية قبيل تعيينه من قبل الرئيس هادي محافظاً للبنك المركزي في سبتمبر2015م. وهو صاحب مؤهلات عليا حاصل عليها من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

مايهمنا الإشارة إليه بواقعية هو صدى التأثير الكبير الذي لا يدركه أصحاب التصريحات الرنانة، او الساعين للبطولة الزائفة المفضوحة لتقييم الصناديق والمؤسسات المالية الإقليمية والدولية المتابعة للشأن الاقتصادي اليمني عن قرب، والأداء المؤسسي للبنك المركزي ومدى تمتعه بالاستقلالية. والتي بدون دعمها واعترافها وثقتها في استقلالية مجلس إدارة البنك المركزي لن تقوم للبنك قائمه.

أذن .. بات الواقع مختلفاً وأصبحت الأمور أكثر اتضاحاً، والسؤال هو ألا تخجل الأطراف التي تدعي وقوفها في صف الشرعية، وألا تدرك ان هجومهم على شخص محافظ البنك المركزي اليمني، هو هجوم على البنك المركزي الذي قام الرئيس هادي بنقله من صنعاء إلى عدن؟؟ وان وقاحة ذلك وتماديه لن جعل محافظ البنك يُمرر ويوافق على مطالباتهم المالية الفاسدة.

وما يفسر كل هذا الهجوم الجنوني على شخص المحافظ، هو السعي للدفع بتعيين شخصية أخرى محسوبة على طرف سياسي يمثلها أحد أقطاب الشرعية، لبسط باقي نفوذهم السياسي على مؤسسات الشرعية، وهم يسعوا بكل قوة لأن يكون لهم موطئ قدم في البنك المركزي وكذلك سعيهم الحثيث للحضور في وزارة المالية.

وهذا يدفعني للإشارة القانونية والدستورية لهذا الطرف السياسي او ذاك، غير المدرك، أن محافظ البنك المركزي ليس وزيراً تعينه ثم تغيره لمتطلبات توازنات سياسية معينة، وإنما يخضع تعيين وإقالة المحافظ، لقانون البنك المركزي اليمني رقم (14) لسنة 2000م وتعديلاته الذي حدد فترة خدمة المحافظ ونائبه بخمس سنوات، ومجلس الإدارة بأربع سنوات، محدداً الحالات القاهرة التي تستدعي إجراء أي تغيير، على سبيل المثال لا الحصر، اتضاح عدم موائمة المؤهل والخبرة لشروط توظيف أحد أعضاء المجلس، أو غيرها من الحالات التي يمكن الإطلاع عليها من خلال قانون البنك المركزي المشار إليه.

وبحكم قربي وعملي الطويل في لجان البنك المركزي واللجان المتخصصة في الشؤون الاقتصادية والنقدية، يمكنني او أوجز حقيقة الأسباب الرئيسية وراء تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية الأخرى، ومن يتحمل مسؤولية هذا الانهيار الحاصل في الاقتصاد الوطني، وهي رسالة صادقة، فخير الناس من عرف قدر نفسه، وكف عن التطاول فيما لا يفقه، خاصة في مجالات سياسات الاقتصاد الكلي والسياسة النقدية، وسياسة إدارة سعر الصرف، وسياسة إدارة السيولة وسياسة إدارة أسعار الخصم والفائدة:

أولاً: منذ نقل البنك المركزي اليمني الى العاصمة المؤقتة عدن في سبتمبر 2016م، والحكومة مُصِره على الاستمرار في توريد إيرادات بيع النفط في حساب الحكومة في الرياض، -وهو حساب كان المبرر من فتحه وجود البنك المركزي في صنعاء- وللعلم فقط فان رئيس الوزراء هو الذي يدير حساب الحكومة في الرياض بشكل مباشر مع وزير المالية في إجراءات غير قانونية وغير دستورية لم تشهد لها مثيل في تاريخ اليمن.
وهذا يدفعنا للتساؤل؟ منذ متى كان رئيس الوزراء يوقع إلى جانب وزير المالية في الصرف المباشر من حساب خارجي ليس في البنك المركزي. خصوصا بعد انتفاء الحاجة لهذا الحساب عقب انتقال مقر البنك المركزي إلى عدن؟!
وهنا إشارة أخرى غاية في الأهمية، هو ما يُعرف على رئيس الوزراء حالة الإسهال المفرطة في التوجيهات والصرف غير المسؤول، فمن تحويلات الصرف الخاصة، وقرارات التوظيف غير المدققة، وصرف المرتبات والإعانات والاعاشات المتكررة والمتجاوزة لصلاحياته والتي لا تراعي أي سقوف مالية أو موازنات تقديرية. مقابل عدم إدراك او استيعاب لمعنى الإيرادات أو حتى كيفية تنميتها وحشدها.
وهذا مؤشر خطير جدا وكارثة محدقة، فعدم إدراك التفاصيل الخاصة بالمالية العامة، وأنها ليست صرف فقط وإنما إيراد وضبط للمصروفات. هذا فما بال القارئ الكريم إذا ما عرف ان الحكومة اليوم مازالت مصره على الاستمرار بالصرف بدون موازنة عامة للدولة. وحتى موازنة العام 2014م التي تتشدق بها الحكومة، فلا يوجد أحد ملتزم بها، وإلا فأين التقارير الدورية، والتي توضح نسب وأسباب الانحراف الشهرية في بنود الصرف المختلفة؟
هذا بالإضافة الى استمرار الحكومة في افتتاح المشاريع الوهمية بمئات الملايين من الريالات، في "تراجيديا ساخرة" لما يكتب على حجر الأساس، ان هذه المشاريع "بتمويل حكومي"، وكأننا نتكئ على مال قارون، والدولة في الأصل عليها ان تعمل في سعي مستمر لإقناع المانحين بالمساهمة في جهود إعادة الإعمار.
ثانياً: منذ نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن والحكومة تغض الطرف عن حساب بنكي أخر في الرياض تديره وزارة الخارجية بشكل مباشر من قبل الوزير، تودع فيه الإيرادات القنصلية، ورفضت وزارة الخارجية بإصرار غير مبرر الاستجابة لتوجيهات وزير المالية حينها "منصر القعيطي" لإغلاق ذلك الحساب وتوريد إيراداته لحساب الحكومة، ومقابل هذا يستخدم الإعلام كوسيلة للتشويه والابتزاز -في ذلك الوقت- وتصوير أن وزير المالية يقطع المرتبات عن البعثات الدبلوماسية في الخارج وعن الطلاب المبتعثين.
ثالثاً: وهي نقطة مفصلية، وذات بُعد سيادي، فمنذ نقل البنك المركزي إلى عدن ورئيس الوزراء غير معني بمسألة عدم توريد المحافظات إيراداتها المحلية لحساب الحكومة العام في البنك المركزي في مقره الرئيسي في عدن. باستثناء بعض إيرادات عدن، وسيئون وبعض من إيرادات المكلا. يقابل هذا حالة من الاستعراض الرخيص بان البنك المركزي يُصر على عدم صرف مرتبات هذه المحافظة او تلك.
رابعاً: وفي مؤشر خاص، وبحاجة الى تدقيق، فان الاتفاق منذ البداية على أن الأوراق النقدية المطبوعة (الجديدة) هي لمواجهة مرتبات المدنيين في جميع المحافظات ولإرفاد البنوك اليمنية بالسيولة المطلوبة للحفاظ على القطاع البنكي من الانهيار، في حين ان الحاصل حالياً هو غير ذلك، فأطراف وقيادات عسكرية بعينها في الشرعية كانت قد استلمت مئات الملايين من الريالات السعودية كدعم مُقدم من المملكة لمرتبات الجيش الوطني ولكنها لم ترى النور، وأبقوا الجيش بدون مرتبات لأشهر طويلة، وعندما بدأت الأوراق النقدية المطبوعة بالتدفق، فرضوا على البنك المركزي تغطية مرتبات الجيش الوطني في جميع المحافظات.
وبعد هذا السرد الذي سعيت من خلاله توضيح الملابسات التي تتعمد بعض الأطراف إغفالها وعدم تناولها، بات من الضرورة الإشارة الى انه وبالنظر لكل هذه المخالفات الجسيمة لقوانين المالية العامة، باتت الكارثة محدقة وخطيرة، خصوصاً مع حالة الاستغفال لمشاعر الناس واحتياجها وإدارة الشأن السياسي والاقتصادي والسياسات النقدية عبر فرق مزامير إعلامية، ولعب دور البطولة الزائفة من خلال زيارة مقر البنك المركزي، وإعطاء دروس في السياسة النقدية وإدارة السيولة، في الوقت الذي تتحمل قيادة الحكومة الجزء الأكبر للأسباب تدهور العملة الوطنية. ولم تبذل أي جهد حقيقي باتجاه النقاط سالفة الذكر .. وهي إجراءات حقيقة إذا ما تمت ستسهم في تدعيم العملية الوطنية وإيقاف حالة الانهيار الحاصلة، جراء تصرفات غير مسؤولة في المقام الأول من الحكومة تجاه مسؤولياتها.
ونستعرض فيما يلي أهم تداعيات عدم اتخاذ قرارات حازمة تجاه النقاط السابقة، والمتصلة باستمرار الصرف المباشر مما يسمى في السياسات النقدية "المنبع الايرادي" وهو ما تقوم به المحافظات المحررة والخاضعة لسلطة الشرعية ووزارة الخارجية، فهذه الممارسات تضعف من قدرة وزارة المالية في الإشراف الفاعل على الموازنة العامة للدولة، ويجعل البنك المركزي عاجزاً عن تنشيط دورة النقود والوفاء بالتزامات الدين العام تجاه البنوك المحلية، كما انه يعيق توفير السيولة اللازمة للاقتصاد الوطني.
ويتمثل الإشكال الأكبر في عدم توريد إيرادات بيع النفط والإيرادات القنصلية في الحد من قدرة البنك المركزي في إعادة بناء وإدارة الاحتياطات الخارجية، ويضعف من مصداقيته في القدرة على الوفاء بالتزاماته الخارجية تجاه الدائنين والبنوك المحلية، وبالتالي يعيق تدفق الواردات السلعية. وهذا يعني أننا أمام عن كارثة حقيقية باتت محدقة وقريبة جدا، ستعمل على مزيد من انهيار العملة وستنتهي بنا الى عجز كامل في تدفق الواردات السلعية الهامة لقوت المواطنين والاحتياجات الضرورية، وسيصاحبه ارتفاع جنوني للأسعار، وهذا كله إذا ما استمرت آليات إدارة المشهد الاقتصادي بخفة وهرج وسائل التواصل الاجتماعي. وتصوير واقع الانهيار المتوقع في صور ضخ إعلامي أشبه بدعاية نازية.
وسيعمد بعض المشككين في إثارة قضية عدم تواجد محافظ البنك المركزي او قيادته في عدن، ولهذا إجابة شافية لو كانوا يعلمون، ولكنهم للأسف ليس لديهم أي رغبة لذلك. ان الدور الذي قام به محافظ البنك المركزي منصر القعيطي، في تحويل القرار التاريخي للرئيس عبدربه منصور هادي والقاضي بنقل المقر الرئيسي للبنك الى عدن ليصبح واقعاً ملموساً لهو جهد حقيقي وكبير.
وقد تمثل ذلك في انتزاع هذه المؤسسة الحيوية الهامة ودورها الخطير في السلم والحرب من براثن الحوثيين عنوة ووظف قدراتها وإمكانياتها لخدمة الشرعية، واستطاع إقناع المجتمع الدولي والإقليمي ومؤسساته بقبول القرار والتعامل معه كأمر واقع، ومهد الطريق لاستئناف مزاولة البنك المركزي لوظائفه من مقره الجديد، وتحقيق لانجازات ملموسة في توفير السيولة ودفع المرتبات وتمويل جزء كبير من نفقات الحكومة الشرعية بينما وقفت العديد من الوزارات موقف العاجز عن انتزاع مؤسسات الدولة من الانقلابيين في صنعاء. وهذه جهود وأكثر ما كان لتنجز ما لم يتابعها المحافظ عبر اللقاءات والاجتماعات الطويلة والمتتابعة مع الأطراف والمؤسسات الدولية التي لم تتفهم من البداية لقرار نقل البنك.
وفي ختام هذه المادة، فاني أقدم نصيحة لوجه الله، وحرصاً مني على تماسك الجبهة الداخلية الوطنية للشرعية والتي تخوض بقيادة الرئيس هادي حرباً ليست سهلة على كافة الجبهات السياسية والعسكرية والاقتصادية، كفوا أيديكم عن البنك المركزي، وحافظوا على استقلالية إدارته ومهامه وعلمياته.
فان العبث في مؤسسة سيادية تعد الأهم والعمود الفقري للحفاظ على شرعية الدولة، لا يمكن ان يصور بشكل ساذج بأن جميع المشكلات الإقتصادية في اليمن هي بسبب البنك المركزي، وكأن الحكومة والأطراف الأخرى قد قامت بدورها على أتم وجه، فنحن في سفينة واحدة والعدو متربص بالجميع. ومن بيته من زجاج لا يرمي جاره بالحجر. ما لم فان للحديث بقية وما املكه من وثائق ومعلومات معززاً ببيانات وأرقام ومستندات، ستفضي لسرد تفاصيل خطيرة، ولا مجال لتناولها في هذا الظرف الخطير الذي تمر به بلادنا.
اختم بأمر مثير للدهشة: وهو ما تناولته بعض وسائل التواصل الاجتماعي، من صور تظهر المرتبات الخاصة بمحافظ البنك ونائبه والمستحقة وفق ما أقرّه رئيس الجمهورية، وبناء على الإجراءات السليمة الإدارية والمالية، وهي خاضعة أيضاً للاستقطاعات الضريبية القانونية وغيرها.
وان يكون راتب قيادة البنك المركزي اليمني "بنك البنوك"، أعلى من أعلى راتب مدير عام بنك تجاري أو إسلامي في اليمن. هذا أمر طبيعي جدا، وهي ليست بجرم ولا هي بفساد، ورغم ذلك فان هناك مغالطات وتضليل في طريقة عرض واحتساب الرواتب المصروفة للمحافظ ونائبه، وهو دون مستوى المرتب السائد في المؤسسات المصرفية المحلية والخارجية والتي يتقاضها رؤساء ومدراء البنوك. بل دون مرتب أي محافظ بنك مركزي في أي دولة فقيرة.