مصطفى صادق الرافعي .. أمة وحده ... !

اليمن العربي

 

عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجبا ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأي، وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه الأمة المسلمة فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها على حين تعيش هي في ظلال التقليد وأوهام التجديد ورضي هو مقامه منها غريبا ومعتزلا لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من كتب وينشر في الصحف أو خلال ما يكتب عنه خصومه الأكثرون وهو ماض على نهجه لا يبالي .. ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال وما كان –رحمه الله- يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية .. كأن ذلك "فرض عين" عليه وهو على المسلمين "فرض كفاية". بهذه الكلمات الموجزة اختصر محمد سعيد العريان مأساة جهاد أستاذه مصطفى صادق الرافعي ورسالة حياته، وذلك عقب وفاة الرافعي سنة 1937 في مطلع كتابه الفريد "حياة الرافعي" الذي يعد مصدرا أساسيا إلى الآن لكل من يتعرض لحياة الرافعي، وذلك ليذكر هذه الأمة بالدين الذي عليها لهذا الأديب الكبير والكاتب الإسلامي المستنير ولا تزال تلك الكلمات رغم مضي أكثر من 70 عاما عليها لم يجف مدادها تستنهض الهمم نابضة بالحياة، تدعو لإنصاف الرجل. والمأساة أن الرافعي لم يأخذ إلى الآن ولو بعض حقه من أمة لا تزال تحمل على عنقها ديونا كثيرة لأمثاله من أدبائها ومفكريها الذين أخلصوا حياتهم لها وماتوا في سبيلها .. أمة –للأسف- منذ بدأت تستبدل برايتها الحقيقية التي تسامت بها على باقي الأمم رايات أخرى ملونة تراجعت عن ركب الحضارات. وقد ظهر الرافعي في عصر هذه الفتن، وعاصر هؤلاء المفتونين فتصدى لهم ورد كيدهم في نحورهم بقلمه وحده لا يسنده حاكم يحميه، ولا منصب يترفع به، ولا حتى صاحب يذود عنه، فكان متكلا على الله وحده متخذا شعاره قوله تعالى: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" فكانت هذه الآية محور حركته كلها ومصدر جرأته وشجاعته وجهره بالحق في وجوه من كان يشتم منهم عداوة للدين أو للغة من صغار وكبار. إشراق العبقرية: ينتمي مصطفى صادق الرافعي (1298 – 1356هـ = 1881 – 1937هـ) إلى أسرة عريقة في النسب خدمت الإسلام والعروبة بعدد من العلماء والقضاة والأدباء والمؤرخين اشتهروا في الشام ومصر، وأول من وفد من هذه الأسرة إلى مصر من طرابلس الشام وطنهم الأول كان الشيخ محمد طاهر الرافعي سنة 1243هـ (1827م) ليتولى القضاء في مصر على مذهب أبي حنيفة، ومنذ ذلك التاريخ كاد القضاء يكون حكرا لآل الرافعي حتى اجتمع في زمن ما أربعون قاضيا رافعيا في مختلف محاكم مصر، ووالد أديبنا الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرزاق الرافعي كان رئيسا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم وهو واحد من أحد عشر أخا اشتغلوا جميعا بالقضاء وخدمة القران. إمام الأدب وحجة العرب: وبدأ الرافعيالانقلاب في حياته الأدبية بمحاولة إعادة الاعتبار للغة العربية والجملة القرآنية إلى لغة الإنشاء في المدارس الأولية، فالإصلاح يبدأ من هناك، وكتب عدة مقالات بديعية في الإنشاء على أمل أن يصدرها في كتاب مدرسي يسميه "ملكة الإنشاء" يتعلم الطلاب من لغته. وكان إنشاء الجامعة المصرية آنذاك سنة 1907 وخيبة أمل الرافعي فيما تقدم للطلاب من دروس في الأدب واللغة جعلته ينصرف عن متابعة كتاب "ملكة الإنشاء" ويلتفت لما هو أهم، فكتب مقالا يهاجم مناهج التدريس في الجامعة، فاهتزت إدارة الجامعة وحسبت لهجوم الرافعي حسابه وأعلنت عن مسابقة في تأليف كتاب جامعي عن "أدبيات اللغة العربية" وجعلت للفائز 100 جنيه لمن يكتب ذلك الكتاب في سبعة أشهر! فلم يعجب ذلك الرافعي فكتب يسخر من شروط المسابقة، فعادت اللجان تجتمع وعدلت الجامعة في المسابقة فزادت المدة إلى سنتين والمكافأة إلى مئتين مع طبع الكتاب على نفقتها. خرج الرافعي على الناس سنة 1911م بكتابه الفريد "تاريخ آداب العرب" الذي بدأه سنة 1909 وطبعه على نفقته قبل حلول الأجل الذي حددته الجامعة متجاهلا بذلك الجامعة ومسابقتها ومكافأتها! ويعلم الله كم كلفه ذلك الكتاب من بؤس وضنك في حياته المعيشية، ولكنها نفس الرافعي الأبية الرفيعة. ويروي شاهد عصره ومؤرخ سيرته الأستاذ محمد سعيد العريان أن هذا الكتاب قد أحدث انقلابا وأثرا ليس في مناهج الجامعة وطرق تدريسها للغة والأدب فحسب بل في كل ما صدر من كتب بعد ذلك في هذا العلم، وأصبح اسم الرافعي على كل لسان، وكتابه موضوع نقاش وإعجاب في كل مجلس ومنتدى. وفي سنة 1912 أصدر الرافعي الجزء الثاني من "تاريخ آداب العرب" بعنوان "إعجاز القرآن" وصدر الجزء الثالث الذي ختم به حياته بعد وفاته بثلاث سنوات، فقلد الرافعي صدر العربية بثلاث درر لم تعرف العربية الحديثة إلى اليوم لها من مثيل، وبلغ به الرافعي أوج مجده، وقمة من قمم إخلاصه لدينه وحبه للغته، ونال هذا الكتاب وعنوانه الكامل "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" أضعاف ما ناله الجزء الأول من ثناء المعجبين وزاد من جحود المنكرين والكارهين للإسلام واللغة العربية، فكتب الزعيم سعد زغلول إلى الرافعي مشيدا يقول: ".. ولكن قوما أنكروا هذه البداهة (بداهة إعجاز القرآن) وحاولوا سترها فجاء كتابكم مكذبا لإنكارهم وأيد بلاغة القرآن وإعجازها بأدلة: مشتقة من أسرارها، في بيان مستمد من روحها، كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم". الرافعي المؤمن القوي: وبقدر ما حرص الرافعي على السمو بروحه وتغذية عقله وتعميق إيمانه بالفكر والتأمل والقراءة والعبادة، حرص كل الحرص على تقوية جسده بالرياضة البدنية منذ باكر شباب، وكانت رياضة المشي أحب رياضة إليه، ويروي العريان أنه شاهد الرافعي ينهي مشيه الذي يبدؤه بعد الفجر بمسح وجهه بقطرات الندى التي تتساقط على أوراق البرسيم، فلما سأله قال الرافعي: "إنه ينضد الوجه ويرد الشباب!" ويحدثنا أن الرافعي مارس أنواعا أخرى من الرياضة كالملاكمة وحمل الأثقال، وأنه كان يحتفظ في الغرفة التي كان فيها مكتبه "بعقلة" تتدلى من السقف، وكرات وأساطين من الحديد وأثقالا من أثقال الرياضة مسندة إلى الحائط، وكان يملك عمودا طويلا من الحديد، يعلق من طرفيه ولديه الصغيرين "سامي" و"محمد" ثم يرفعهما بيده! ومن شدة عشقه للرياضة سعى الرافعي لمعرفة أبطالها المشهورين ورفع من مكتبه صورة الرياضي الفرنسي المشهور صاندو إلى جوار صورة الإمام محمد عبده! لتمثلا أكمل ما يحتاج إليه الإنسان من قوة الجسد وقوة الروح، وكان يردد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن القوي" وعملا بدعوة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تعلم الرافعي السباحة وكان يرتاد شاطئ "سيدي بشر" في الصيف مع أسرته ويلوذ بمكان آمن فيه يبعده عن أعين الرقباء، وكان أصحابه يسمون ذلك المكان "بلاج الرافعي" لا يقترب منه إلا من عرفه الرافعي وأذن له وإلا سال من عصا الرافعي الشهيرة دم رأسه!