بكري معتوق عساس .. شجرة الحب التي تمشي على قدمين في مكة المكرمة

اليمن العربي

 يكتب د. بكري معتوق عساس مقالاته ومؤلفاته بحميمية تجعل حتى الذين لا يعرفونه شخصيا يشعرون أنه يكتب لهم وحدهم، وهو نوع نادر من الكُتَّاب، اذ يُشعرك أن الكلمة لها روح حلوة تشيع الود والالفة بينك وبين صاحبها، فتُقبل على قراءة ما خطه قلمه على السطور فتلتهمه بتذوق، وتستوعبه بوعي، وتتلذذ به بحب.  وهو قارئ نهم يحب الكتاب ويعشق القراءة، فإذا أردت أن تُسعده أهده كتابا فهو أكثر فرحا به من أي شيء في دنياه.  وأعترف أني عرفتُ د. بكري عساس قبل أن أقرأ له – وهذا من عيوبي وتقصيري- عرفته فأحببته من أول لقاء .. أحببت فيه تواضعه الفريد، وخُلقه المجيد، وبساطته الطبيعية، وروحه المكِّية العذبة. يتعامل معك بلا تكلف، ويتحدث بلا مواربة أو اصطناع، ويُشعرك  دائما أنه يتعلم منك حتى ول كان هو  أعلم منك..!

فلسفة التعامل مع الناس:

        و د.بكري عساس في تعامله هذا لا يميز بين كبير وصغير فهو مع الكبير المقام هو نفسه مع الصغير المقام، وقد رأيته يُعامل سائقه وموظفيه بالود نفسه الذي يُعامل به كبار القوم. كان يقول: الاخلاق لا تميز بين الناس لأنها تُمثل صاحبها. وسمعته مرة يقول أيضا: الاخلاق عبادة فصلاتنا في المسجد يجب أن تكون هي نفس صلاتنا في البيت أو الشارع أو أي مكان، وهكذا تعاملنا مع الناس يجب أن لا يتغير مهما كانت صفاتهم وأجناسهم ومقاماتهم، لأننا في النهاية عندما نحترم الناس نُعبِّر بأخلاقنا عن مدى احترامنا لأنفسنا.. !

       هذه فلسفة د. بكري عساس في تعامله مع الناس، وفي طريقته في الكتابة، وفي أسلوبه في التعبير، وفي أسلوبه في الحياة، لهذا فإني عندما أقرأ له بعض مقالاته أو بعض موضوعات كتبه أشعر انه يميل ناحيتي ويهمس لي كأنه يقول لي سرا، والانسان عندما يهمس لك بسر، فهذا يعني أنه يثق بك، ويعني أيضا أنه سيسكب في أذنك مشاعره انطباعاته في أمر لا يريد أحدا غيرك يعرفه، فتأخذ الموضوع الذي يحدثك به باهتمام، هذا كان شعوري عندما قرأت له ما كتبه عن بعض الشخصيات المعاصرة في كتابه (أعلام في حديث الذاكرة). في كلمات قليلة كتب عن كل شخصية فيما لا يزيد عن صفحة ونصف أو صفحتين على الأكثر، فجعلني أشعر انه رسم لوحة فنية عن سمات كل شخصية معبرة عن خصالها وسجاياها ومشاعره نحو صاحبها. وذات مرة قلت له مازحا: أخي د. بكري لا أجدك ترى في الناس عيوبا قط؟! فقال لي بسرعة بديهة: "كن جميلا ترى الوجود جميلا". فقلت في نفسي: حقا صدق أوجز فلسفته في الحياة بهذا البيت الشهير لإيليا أبي ماضي .. انه المعنى نفسه الذي نقول في احاديثنا اليومية: "كل يرى الناس بعين طبعه" فلا عجب أن يرى الصديق د.بكري عساس الناس بهذا الجمال ..  لقد وجدت انا شخصيا في بكري عساس بشخصيته وخصاله ومزاياه شجرة  حب تمشي على قدمين في مكة المكرمة فأحببتها ..

 ففي ظلال هذه الشجرة بمكة المكرمة يلتقي كل يوم بعد صلاة الظهر لفيف من أبناء مكة الابرار ومثقفيها الاخيار، فإذا تأخر أحدهم تجده يتصل به، ويسأل عنه، ويتفقد حاله، لا يعاتب المقصر، ولا يحاسب على خطأ أو هفوة، ولا يُعامل أحدا بالمثل إلا إذا كان الآخر أفضل منه. وقد أحببت حضور مجلسه لما يشيعه بين الحضور من روح الاخوة والمحبة والوفاء، وأصبحت من رواد جلسته بعد ظهر كل يوم عندما أكون بمكة المكرمة، بل أحاول أن أنسق مواعيدي بطريقة لا تجعلني أغيب عنه، فهو يتابع منذ الصباح الباكر كل أحبابه بالسؤال، والتأكيد على رؤيتهم،  والحرص عليهم.. وأصبح د. بكري عساس بالنسبة لي الصديق الصدوق في نصحه ورأيه، وهو الأخ الودود الحنون في كل ما يتصل بأصحابه.

قصة الحب العظيم:

  لا توجد مدينة في الكون يحبها أهلها كما يحب أهل مكة  المكرمة مدينتهم المقدسة، ويرتبطون بها وجدانيا حتى لو فارقوها اضطرارا. ويتصف الصديق د. بكري عساس بميزة فريده في حبه لمكة المكرمة  يختلف فيها عن غيره من أبنائها، فهو لم يبرح مكة قط، واذا فارقها، يظل في قلق وشوق حتى يعود اليها كالطائر الذي لا يجد أمانا إلا في عشه، ورغم أن ظروف أسرته اقتضت أن يملك لهم بيتا في جدة، إلا أنه شخصيا لم ينتقل الى جدة، فلا يذهب اليها إلا يومي الجمعة والسبت لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أسرته هناك، ثم يعود على عجل شوقا لمكة  المكرمة التي أصبحت معين الحب الذي يسقي كل ينابيع حياته وعمله ومحاور تفكيره.  ومثلما مكة حاضرة  في حياته فهي حاضرة أيضا في فكره بل هي مصدر الهامه، وقد كانت مكة موضع عدد من مؤلفاته مثل (معاد)، (هذا البلد) وغيرهما . وهو في هذا الحب العظيم لمكة المكرمة  هذا يختلف عن كثير من أهلها الذين يحبونها، ولكنهم انتقلوا الى جدة واتخذوها سكنا دائما لهم بسبب ظروف أعمالهم وعائلاتهم.  فلا عجب أن نجد د. بكري عساس يترجم هذا الحب في كل ما كتب، فقداسة مكة ورائحة أزقتها وحاراتها، وعطرها، أهلها نجده يتضوع في كتابات بكري عساس بشكل جميل ورائع وأخاذ..  وفي السطور التالية نقدم نماذج من هذا الحب العظيم.

رائحة التاريخ وعبق أهل مكة:

  قرأت للدكتور بكري عساس مقالات جعلتني أشعر أنى أشم رائحة المكان، وأتذوق طعم الطعام، وخاصة الموضوعات التي ترتبط بمكة المكرمة – وهو ابنها البار- فما أجمل الوقفة التي وقفها في مقال (أزقة حي المسفلة) التي ذكرها أسما اسما فجعلني أشعر اني عشت هناك، وأحن للعيش في أيامها وأنا الذي لم أعرفها قط.. !

          استطاع  بكري عساس بعشقة العظيم لقبلة الدنيا ان يجعلني أشم رائحة التاريخ فيما يكتب، وأشعر بتضوع عبير المكان بين السطور فأحن الى جلسة القهاوي الشعبية عندما يتحدث عن (قهاوي زمان) في مكة المكرمة، وفي (دُحل وشعاب مكة) يجعلني أعيش الحياة في دلة السادة ودحلة المواركة ودحلة حرب ودحلة المغاربة الى ان يتحدر بنا في حديث سلس شجي عن حارة المسفلة ودحالها. وفي (مساجد مكية) جعلني أتمنى الصلاة في مساجد لم أدخل بعضها مثل مسجد البيعة ومسجد الراية ومسجد الجن ومسجد الكبش، ومسجد انشقاق القمر.

            وللذكريات المكية في حياة د. بكري عساس  رائحة تطغى على كل الروائح، ففي مقال (بساتين مكة) تكون رائحة التاريخ أقوى من رائحة الفاكهة لأنه يربط ذِكر البساتين بذكريات عاشها فيها. يأخذنا في جولة ماتعة بين تلك البساتين  مثل بساتين الحسينية والعابدية والجمجوم والسيل الصغير. ويعيد الى الذاكرة بساتين ارتبطت بأسماء أصحابها الذين عرفهم مثل بستان العم علي أبو طربوش  وبستان وبستان العم مصطفى الهيطلي و بستان منصور الشنب ، وهي بساتين بها احواض سباحة يرتادها الناس بمبالغ زهيدة. 

 وفي مقال (الطباخة في مكة قديما) وجدت مزيجا عجيبا بين روائح التاريخ وروائح الناس زمان وروائح الطبيخ في الحارة المكية، وصف دقيق لأساليب الطبخ، ولشخصيات الطباخين، وتأريخ فني للحياة الاجتماعية في الحارات المكية القديمة، فهو يذكر أسماء الطباخين ودواليبهم في كل حارة، وأنواع الطبيخ الذي اشتهر به كل واحد منهم. وقد وجدتني معه اقف في المسفلة، على دولاب العم عبدالحميد الأبيض، ودولاب العم جميل باوارث بالقرب من البازان، ثم نجد في شارع حمزة دولاب العم محمد الياس ثم المعلم مستور ودولابه بجوار الدبول في زقاق باجابر، ثم نتجول في ازقة الحارات معه لنلتقي دواليب إبراهيم فتيني ومحمد كنسارة وعمر زمزمي وغيرهم كثير سردهم في ذلك المقال التاريخي.

 

ميزة الفنان التي تفرد بها:

 لا أعرف أحدا – حسب علمي- كتب بتفصيل دقيق وصف الشارع الذي ولد فيه، ففي مقال (ولدت فيه) يتحدث د. بكري عساس عن شارع حمزة الذي ولد فيه، فشدني حتى أحسست أنى أشاهد فيلما سينمائيا (أبيض أسود) اتابعه بشغف. وصف الشارع  وصف فني وليس وصف تاريخي، لأن التاريخ لا يصف وانما يذكر ما هو موجود، ولكن الفن يصف قطعة من حياة، لهذا شعرت وأنا أقرأ وصف الشارع أني أدبُّ فيه مع الناس واتجول بين دكاكينه ومنعرجاته، فـ "الشارع يبدأ من  الشمال بزقاق البرسيم مرورا بقهوة  صالح عويس (قهوة السقيفة) بالقرب منها دكان  جميل مقادمي لبيع الرؤوس المندي الذي لا يبعد كثيرا عن فرن  صدقة حنيفة الذي يأتيه العجين جاهزا من ربات البيوت، في منتصف الشارع فرن  هاشم بدر ثم دكان  آدم الجزار في منتصف الشارع تقريبا ولا يبعد عنه دكان الدوكي لبيع السوبيا والزبيب في جرار الطين، بعدها بقالة الباندة بجانب البازان، وأمام البازان مسجد السيد حمود الذي أكرمنا الله فيه بحفظ أجزاء من كتابه الكريم علي يد العالم الجليل السيد حمود،  قبله دكان الحساوي لبيع الحليب البقري والقشطة، يليه دكان حزيمة الهذلي لبيع الحليب واللبن، ولا يبعد عنهم إلى الجنوب دكان صلاح بكري لبيع الفول والمعصوب، وبجواره دكان عودة الفهمي لبيع العسل والسمن والجبن البلدي".

          ثم يذكر كيف كان يخرج مع والده وهو في سن الخامسة من عمره للصلاة في مسجد سيدنا حمزة بن عبدالمطلب المجاور لبيتهم. وهنا يقف د. بكري عساس وقفة طويلة ليصف لي كل ما جاور المسجد كأنه يدور بعدسة سينمائية في نواحيه جميعا:  "بجوار المسجد تقع قهوة الشجرة ثم دكان باجروان لبيع الشربة والكرشة بعدها دكان  بكار النحاس الذي يصقل النحاس وأمامه دكان سلمان الشهير بـ(دونونو) لبيع المقادم، وبالقرب منه دكان يسلم باصفار لبيع الفول ولا يبعد عنهم منزل  صلاح ديباني ومعصرة السمسم والحلاوة الطحينية والهريسة، ويقع بجانبه دكان غريب للمطبق وثابت اليماني لنفس المهنة وقبلهم فرن التميس وصاحبه إبراهيم بخاري وأمامه، عبدالله الهيج المتخصص في بيع البيض والدجاج البلدي. ينتهي الشارع بقهوة المعلم يحيى مالنتا بالقرب من بستان البخاري الذي كان أحد حدائق مكة الجميلة التي احتضنت الكثير من المناسبات المكية".

            وصف فني دقيق لا يستطيعه إلا فنان دقيق الملاحظة، لهذا أقول لو لم يكن د. بكري عساس أستاذا اكاديميا لكان روائيا مبدعا يقدم لنا روايات تدور احداثها في حارت مكة وشوراعها مثلما خلد نجيب محفوظ في رواياته حارت القاهرة وشوارعها.

سر هذا القلب العجيب:

         أما في كتابه الذي صدر مؤخرا عن الدار العربية اللبنانية بعنوان (جامعة أم القرى مواقف وذكريات) فقد كتبه بتلقائية وحب لكل الذين عرفهم، وكل الذين عمل معهم، وكل الذين عملوا معه، تحدث عن الناس اكثر مما تحدث عن الإنجازات التي تحققت، وتحدث عن أصحاب الفضل عليه، وسكت عن نفسه. وأعتبر هذا الكتاب سجل وجداني وأكاديمي لجامعة أم القرى يرفد تاريخها. ولن أطيل عن هذا الكتاب لأنه منذ صدور والاقلام لم تكف عن الكتابة عنه حتى أصبحت عشرات المقالات  والاشادات.  وحسب هذا شهادة للكتاب ولصاحبه.

والحقيقة التي أفسر بها سر هذا الكتاب بل سر كتب د. بكري عساس وشخصيته، ان هذا الرجل "قلب" خالص عجيب، فهو يتحدث بقلبه، ويتعامل بقلبه، فلا عجب اذن ان يغمس قلمه في قلبه ويكتب، فيؤثر ما يكتب في قلوب الناس .. !!