أردوغان يقفز على أزمته الاقتصادية الطاحنة بتصريحات عن "كتابة دستور جديد"

عرب وعالم

اليمن العربي

ذهبت دراسة حديثة الى إن تحركات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان  نحو تضخيم الحديث عن أهمية كتابة دستور جديد، تأتي في سياق التحايل على ضغوطات الداخل التركي، والقفز على الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد من عام 2018 إضافة إلى السعي لمحاصرة الأحزاب الجديدة التي خرجت من رحم العدالة والتنمية من جهة، وقطع الطريق من جهة أخرى على دعوات المعارضة التقليدية نحو ضرورة إلغاء النظام الرئاسي، والعودة للنظام البرلماني.

 

وأشارت الدراسة التى أعدها كرم سعيد الباحث فى الشؤون التركية الى انه على الرغم من أن الدعوة لكتابة دستور جديد في تركيا ليست هي الأولى من نوعها، فقد سبقها تشكيل لجنة من ممثلين بالتساوي من جميع الأحزاب في البرلمان لإعادة النظر في الدستور الحالي، لكن هذه المحاولة تعثرت، وتم حل اللجنة في عام 2013 بسبب تصاعد الخلاف بين المكونات الحزبية.

 

واعتبرت الدراسة أن عودة “أردوغان” للحديث عن كتابة دستور جديد، وتوظيف ما أسماه “حزمة الإصلاحات الشاملة”، تكشف عن سعيه إلى تحقيق مكاسب سياسية في المرحلة الحالية بسبب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية، وتآكل رصيده التقليدي وسط قواعده الانتخابية، وفشل الإجراءات التقليدية في التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد منذ عام 2018، ناهيك عن تصاعد حدة الاستقطاب في الداخل التركي، وتوجه المعارضة نحو ترسيخ تحالفاتها وتوسيعها لإعادة تشكيل الخريطة السياسية، والعودة للنظام البرلماني.

 

وذكرت الدراسة أنه فى مطلع فبراير 2021 لفت الرئيس التركي إلى أنّ حكومته بدأت بالفعل إعداد دراسة شاملة لحزمة الإصلاحات التي تتضمن فلسفة وأهداف دستور جديد، سيكون هو الخامس للبلاد. وشهد الدستور التركي تغيرات مهمة في المائة عام الماضية، بدءًا من دستور 1921 الذي تأسست بموجبه الجمهورية التركية الحديثة، وتغييره لاحقًا عقب انتهاء حرب الاستقلال عام 1924، واستمر العمل به حتى عام 1961، حيث تمت كتابة دستور جديد عقب انقلاب 1960. وفي الثمانينيات تمت كتابة دستور جديد عام 1982 بدفع من الذين دبروا انقلاب 1980. ويتكون 1982 المعمول به حتى اليوم من 7 أقسام و155 مادة أساسية، بالإضافة إلى 21 مادة مؤقتة. ويمنع الدستور الحالي منعًا باتًّا أي تعديل أو اقتراح على المواد الأربع الأولى من الدستور، التي تتضمن الأسس العامة للدولة التركية، والتي تشير إلى هوية الدولة والحقوق السيادية للأمة التركية وأجهزة الدولة الدستورية، ويعرّف تركيا بأنها دولة قانون ديمقراطية وعلمانية واجتماعية.

 

جدير بالذكر أن حزب العدالة والتنمية قام بإدخال سلسلة من التعديلات على الدستور في أعوام 2007 و2010، وآخرها في 2017، والتي تضمنت تحويل البلاد لجهة النظام الرئاسي.

 

واوضحت ان الدستور الجديد حال نجاح حزب العدالة والتنمية في تمريره يشتمل  على عدد من المواد التي يرتكز جوهر مضمونها في الأساس على تكريس النظام الرئاسي الذي يتمتع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات تنفيذية واسعة، وكشف عن ذلك تصريحات الرئيس التركي في 3 فبراير 2021، عندما قال: “إن الدستور الجديد المزمع إعداده سيُبنى على القفزات التاريخية التي حققناها في البلاد، وخاصة نظام الحكم الرئاسي”.

 

كما قد يكون من أبرز مواد الدستور إنهاء أو على الأقل تهميش أحزاب الخصوم، وبدا ذلك في حرص قيادات العدالة والتنمية طوال الفترات الماضية على تصدير اتهامات ضمنية وغير مباشرة للمعارضين الحزبيين في الداخل بأنهم إرهابيون، وبعضهم غير دينيين وأنهم معادون للدين.

 

ووفقًا للدستور المزمع، قد يتم تعديل قانون الانتخابات الرئاسية، وحاجز العتبة الانتخابية لدخول البرلمان، بحيث يتم تخفيض الحد الأدنى للتمثيل في البرلمان من 10 في المائة إلى 5 في المائة، إضافة إلى إجراء الانتخابات الرئاسية ضمن جولة واحدة بدلًا من جولتين وإلغاء النسبة الاعتيادية للفوز، والتي تتمثل بضرورة حصول المرشح الفائز على (50+1). ويقترح النظام بدلًا من الحصول على أكثر من نصف الأصوات أن تقر التعديلات فوز المرشح الحاصل على أكثر الأصوات بالجولة الأولى حتى ولو كانت أقل من 50%، وإلغاء الجولة الثانية.

 

وتجدر الإشارة إلى أن الائتلاف الحاكم يسعى منذ وقت لتوفير بيئة مواتية لطرح وتمرير هذه التعديلات، وتجلى ذلك في تأييد الرئيس التركي لتصريحات سابقة لوزير العمل التركي “فاروق تشاليك”، في أكتوبر 2019، والذي دعا إلى ضرورة إلغاء شرط “50+1” لنجاح المرشح في رئاسة الجمهورية ليكون 40% فقط، حتى تنتهي الانتخابات من جولة واحدة على حد تعبيره.

 

كما يتوقع أن يتجه الدستور الجديد حال الذهاب إلى كتابته، نحو محو أثر القوانين التي تعزز تدخل الجيش في الحياة السياسية المدنية، وتحييد تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، ورضوخها للسلطة المدنية.

 

يمكن تفسير إعلان الرئيس التركي عن كتابة دستور جديد في التوقيت الحالي في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

 

تثبيت الهيمنة: لا تنفصل الدعوة لكتابة دستور جديد عن مساعي الرئيس التركي لتفصيل المشهد على مقاس طموحات حزبه، ووضع فصول جديدة تعزز هيمنته على السلطة، وتقزيم السلطات التي يمكن أن تمثل تحديًا أمام توجهاته، وتفح الباب أمام إمساكه بمفاصل المشهد في الداخل. في هذا السياق، فإن الدعوة لكتابة دستور جديد تمثل إحدى آليات تثبيت النفوذ من جهة، ومن جهة أخرى يمكن توظيفها في التحايل على التراجع الحادث في شعبية الحزب الحاكم، بصرف الانتباه إلى حدث مغاير.

 

قطع الطريق على الخصوم: يستهدف الرئيس التركي من وراء الدعوة لكتابة دستور جديد محاصرة خصومه الحزبيين، وقطع الطريق على دعوات المعارضة للعودة إلى النظام البرلماني مقابل حماية النظام الرئاسي الذي وفر بيئة خصبة لتمكين “أردوغان” من إحكام السيطرة على هياكل الدولة ومؤسساتها. وتصاعدت مخاوف العدالة والتنمية على النظام الرئاسي مع بدء المعارضة الاستعداد لتشكيل لجنة دستورية مشتركة للانتقال إلى نظام برلماني. كما تصاعد قلق الرئيس التركي مع نجاحات استراتيجية “بناء الأصدقاء” التي اعتمدها حزب الشعب الجمهوري في توسيع الائتلاف الحزبي المعارض “تحالف الأمة”، في ظل تنامي مساحات التفاهم مع الأحزاب التي خرجت من رحم الحزب الحاكم، وهي الديمقراطية والتقدم، وحزب المستقبل.

 

إرضاء الحليف: يعتمد بشكل متزايدٍ على “دولت بهجلي”، رئيس حزب العمل القومي اليميني المتشدد، في ظل تصاعد الانقسامات داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتراجع شعبيته أوساط القواعد المحافظة التي تمثل الكتلة الانتخابية الصلبة للحزب الحاكم. في هذا السياق، فإن أحد أهداف كتابة دستور يرتبط بتحقيق مطالب حليف “أردوغان” دولت بهجلي، ومنها إدخال تعديلات على قانون تأسيس الأحزاب السياسية، تمهيدًا لإغلاق حزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي للأكراد. وكان رئيس حزب الحركة القومية قد أعلن في 2 فبراير 2021 عن حاجة تركيا إلى دستور جديد، وأضاف في بيان له: “من الواضح أن تركيا بحاجة إلى دستور جديد، وأن هدف ومنظور وفكر حزب الحركة القومية يصب في هذا الاتجاه”.

 

استيعاب ضغوط الداخل: يسعى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” من خلال التوجه نحو إثارة الحديث عن كتابة دستور جديد إلى صرف الانتباه عن أزمات الداخل، واستيعاب الضغوط التي تتعرض لها حكومة العدالة والتنمية بسبب التحولات الدراماتيكية في الاقتصاد التركي، وحجم المعاناة التي تعيشها قطاعات واسعة من الأتراك، في ظل المعطيات السلبية، وفي الصدارة منها انهيار سعر صرف العملة الوطنية (الليرة) التي صُنفت في نهاية العام الماضى كإحدى أسوأ عملات الأسواق الناشئة أداء على المستوى العالمي، ناهيك عن ارتفاع معدلات التضخم.

 

الاستعداد للانتخابات المبكرة: مع تصاعد زخم دعوات المعارضة لإجراء انتخابات مبكرة، نتيجة فشل الإجراءات التقليدية لحكومة العدالة والتنمية في القفز على أزمات الداخل، وفي الصدارة منها تصاعد حالة الاستقطاب المجتمعي، والانشقاقات داخل الحزب الحاكم، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة. ويبدو أن ذلك كان أحد الأسباب التي دفعت الرئيس أردوغان إلى إعادة حساباته، والتفكير في دفع الجدل مجددًا حول الدستور إلى صدارة المشهد، والظهور باعتباره صاحب السبق لدعوة إعادة إنتاج دستور جديد للبلاد. لكن اللافت أن المعارضة نجحت في توظيف دعوة أردوغان لكتابة لدستور جديد لإبرازه فشل حكومته من جهة، ومن جهة أخرى إضفاء وجاهة على مقاربتها القائمة على أهمية الدعوة لانتخابات مبكرة في ظل تصاعد الخلل في إدارة المشهد الداخلي إضافة إلى تصاعد خسائر الانخراط التركي في صراعات الإقليم.

 

مواجهة الانتقادات الخارجية: يعي الرئيس التركي صعوبة التوجه نحو كتابة دستور جديد في التوقيت الحالى، حيث يتطلب الحصول على ثلثي الأصوات، أي يحتاج إلى أصوات 400 نائب من أصل 600 نائب، بينما عدد مقاعد تحالف الشعب تبلغ 336، منها 289 لحزب العدالة والتنمية و48 لحزب الحركة القومية. غير أن الترويج لدعوة كتابة دستور جديد يستهدف في جوهره التحايل على الانتقادات الدولية لتركيا في ملفات الداخل، واتهام النظام بالسعي إلى تأميم المجال العام، وإقصاء معارضيه، وهو اتجاه قد يتصاعد بعد تولي إدارة “جو بايدن” مقاليد السلطة في واشنطن، واتهام الرئيس الأمريكي الجديد عشية حملته الانتخابية بالمستبد، ودعوته صراحة لدعم المعارضة