تركيا .. عنوان رئيسي في تقارير إنعدام الحريات وقمع الصحفيين والمثقفين

عرب وعالم

اليمن العربي

أصبحت تركيا عنوانا رئيسيا في التقارير التي تتحدث عن انعدام الحريات وقمع الصحافيين والمثقفين.

 

وكلما تراجعت شعبية حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان أمعنت الحكومة في التضييق، الذي صار ينظر إليه الكثيرون على أنه “مصدر قوة” لهم، فذلك يعني أن السلطة تخشاهم.

 

بحسب تقرير لجريدة العرب في عدد اليوم الأربعاء، فإلى جانب الصحافيين، يأتي الأدباء والكتاب الأتراك على رأس قائمة المستهدفين. وقد حول هؤلاء الأمر إلى تحدّ تميل كفته لصالحهم، حيث قرروا مواجهة القمع بالكتابة والمراهنة على ثقة الشعب ورغبته القوية بالتحرّر من سلطة الاستبداد. تحول الأدباء والكتاب إلى أصوات الأتراك المقموعين، يواجهون الداخل وينشرون الحقائق في الخارج.

 

الكتابة تحولت إلى سلاح سلمي للأدباء الأتراك للتصدي للعنف الممنهج الذي تمارسه الحكومة في حقّ الحريات العامة وحرية التعبير. وجعلت الكتابة رسالتها التركيز على الدعوات الإنسانية بديلا عن تلك الدعوات التي تساهم بتقسيم المجتمع وزرع بذور الفتن والنزاعات بين مختلف أطيافه.

 

ويروي أدباء أتراك لـ موقع أحوال تركية، معاناتهم مع النظام التركي الذي يمعن في تكميم أفواه معارضيه من مختلف المجالات ومن ضمنها الأدب حيث ما تلبث أخبار ملاحقة الروائيين أن تهدأ حتى تعود إلى دائرة الضوء مرة أخرى.

 

ولطالما تعرض الكتاب المعارضون لحكم أردوغان إلى تضييق واسع وحملات ممنهجة، وكانت حجة النظام إثارة مواضيع حساسة بالنسبة للمجتمع التركي مثل قضايا العنف الجنسي، حيث عمل النظام على تأجيج الشارع ضد هؤلاء، وفيما يزعم النظام رغبته في الدفاع عن طبيعة مجتمع يبدو محافظا، لكن الحقيقة مغايرة لذلك، حيث سعى حزب العدالة والتنمية إلى تصفية حساباته السياسية مع معارضيه من الأدباء وتشويه صورتهم أمام الرأي العام.

 

تجلى ذلك في موجة من انتقادات شعبية واسعة إضافة إلى الضغوط السياسية والملاحقات القضائية التي تعرضت لها على سبيل المثال إليف شفق أشهر روائية في تركيا والحائزة على عدة جوائز، وأيضا الكاتب التركي عبدالله شيفكي بمجرد إصداره لرواية “شقة زمرد” عام 2013.

 

وفي العام الماضي، كانت شقة زمرد أحدث عمل ينضم إلى قائمة من الأعمال التي واجه كُتّابها وناشروها تداعيات قانونية في تركيا. لكن هذه المرة هناك اختلاف مهم؛ فقد سُحب الكتاب من السوق، وواجه شيفكي وناشر الكتاب علاءالدين توبجو، احتمال صدور حكم بالسجن بحقهما، ليس برغبة السلطات السياسية وإنما بسبب مطالب الآلاف الذين احتجوا على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

ويثير الالتفاف الشعبي وراء قيود أردوغان للأدب والحريات مخاوف الأدباء الأتراك، المصرين على حقهم في الإبداع والاختلاف. ويحذر خبراء ومؤلفون وأشخاص على دراية بقطاع النشر من أن يؤدي هذا إلى رقابة متشددة على قطاع النشر في تركيا.

 

تركيا التي باتت توصف بأنّها أكبر سجن للصحافيين في العالم، والتي تراجعت فيها الحريات الصحافية بشكل كبير وخطير بعد محاولة الانقلاب الفاشل منتصف يونيو 2016، والتي استغلها الرئيس أردوغان للتنكيل بخصومه، بحسب ما يشير معارضوه، تعيش مناخ الرعب والخوف. ويتمّ التضييق فيها على أصحاب الرأي المستقلين بغية ترويعهم وإسكاتهم. ومن أبرز ضحايا النظام الأدباء.

 

ويلفت رئيس التحرير السابق لصحيفة جمهورييت التركية جان دوندار، في مقال افتتاحي لصحيفة واشنطن بوست، إلى أن أردوغان يستخدم فايروس كورونا لمواصلة قمع عشرات الآلاف من السجناء السياسيين في البلاد.

 

وقال في تعليقه على مشروع حزب العدالة والتنمية لتقديم قانون إلى البرلمان يتيح الإفراج عن 90 ألفا من 300 ألف سجين في تركيا لحمايتهم من الفايروس “سيبقى في السجن الكثير من الصحافيين والسياسيين والناشطين والمواطنين العاديين الذين سجنوا لانتقادهم الحكومة، التهمة التي تعادل التواصل مع الجماعات الإرهابية، في حين سيتم إطلاق سراح الأشخاص المسجونين الذين ارتكبوا جرائم خطيرة.

 

وعلى الرغم من التضييق المسلط على المجال الإعلامي والثقافي في بلدهم، يرفض الأدباء الأتراك الصمت والرضوخ للنظام. وبصوت واحد يؤكدون أن الاختلاف ليس جريمة، وأنّ حرية الرأي يجب أن تكون مقدّسة، وأنه من غير المناسب تحويل البلاد إلى محاكم تفتيش، والحكم على دعاة الحرية من الأدباء والنشطاء بالسجن لمدد طويلة، وكأنّهم قتلة ومجرمون.

 

ويخاطب الروائي التركي أحمد ألتان المحكوم عليه بالإعدام النظام متحديا “قالوا لنا: لن تنتقدونا، ورددنا عليهم بقولنا: سنظل ننتقدكم. نحن لسنا خائفين منكم. افعلوا بنا ما يحلوا لكم. سنوجه سهام نقدنا إلى صدوركم طالما تنتهكون القانون. هل ستسجنوننا؟ رأينا ما حدث. هل سترسلون بنا إلى هناك مرة أخرى؟ لا توجد مشكلة، سنذهب مرة أخرى إلى السجن.

 

وكانت السلطات الحكومية هددت ألتان أثناء الجلسات بأنه سيلفظ أنفاسه الأخيرة داخل السجن، ولكنه ردّ عليهم ردا حاسما “لم آت هنا لأستمع إلى حكم ستصدرونه في حقي، وإنما جئت لأحكم أنا عليكم. أنا على استعداد لأن أموت داخل السجن” وأضاف “وماذا عنكم أنتم؟ هل أنتم على استعداد أيضا للموت داخل السجن؟.

 

كما تؤكّد الروائية أصلي أردوغان التي تمّت تبرئتها من قبل محكمة في إسطنبول من تهم “محاولة المساس بسلامة الدولة” و”الانتماء إلى مجموعة إرهابية”، أنّ تركيا كنظام بدأت تشن حربا مفتوحة على حقوق الإنسان والأدب، والأسوأ من ذلك الضمير؛ وذلك من خلال إصرارها على ملاحقة الأبرياء مثلها.

 

وسبق لأصلي المنفية في ألمانيا أن أبدت قلقها على مستقبل بلادها في ظلّ حكم أردوغان، ووصفتها بأنها أشبه ما تكون بألمانيا قبل أن يشتدّ فيها حكم النازيين في الأربعينات من القرن الماضي. وقالت إنّ “الطريقة التي تسير بها الأمور في تركيا تشبه ألمانيا النازية.

 

وقد أنجز العديد من الأدباء الأتراك أعمالا لافتة من خلف القضبان، ومن هؤلاء السياسي المعارض صلاح الدين دميرطاش، الذي يتحدّى من داخل سجنه القمع الحكومي، وهو الذي اعتقل منذ أكثر من ثلاث سنوات، ويتهم بإدارة “منظمة إرهابية” والقيام بـ”دعاية إرهابية” و”التحريض على ارتكاب جرائم”، ويواجه بالتالي عقوبة السجن مدة تصل إلى 142 سنة.

 

ويعتبر دميرطاش أن الكتابة شكل من أشكال “المقاومة” لرتابة الحياة في السجن وقال “كل شيء يتم فعله لإضعاف الإرادة وتدمير شخصية الرجال.

 

وأعلن الروائي الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق، أن الديمقراطية التركية موجودة فقط في صناديق الاقتراع، في حين أشار إلى ما أسماه الحالة السياسية المروعة للبلاد. وقال “إذا لم تكن متشائما حتى اليوم، فهذا أمر تُحمد عليه.. تركيا دولة فظيعة، وحالتها السياسية مروّعة أيضا.

 

وكان باموق منتقدا صريحا للحكومة التركية، حيث تحدث بصوت عال ضد الأحكام الصادرة بحق الكتّاب الأتراك، وقال إن البلاد تتجه إلى نظام الإرهاب، ودعا الزعماء الأوروبيين إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة مع أنقرة بشأن حرية التعبير.

 

ووجّه باموق الذي عارض موجة الإسلام السياسي، وقال عنها “لقد تبددت أسطورة الإسلام السياسي ورونقه”، انتقادات إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، في وقت سابق، وقال “في السنوات الخمس أو الست الأولى من حكمه، كان يغازل الاتحاد الأوروبي تجنبا لوقوع انقلاب عسكري عليه، ولكنه بعدما تمكن من الحكم تراجع اهتمامه بالديمقراطية.

 

بدورها أعربت الروائية التركية الشهيرة أليف شفق في أكثر من مرة، عن خشيتها على مستقبل بلادها، مؤكدة أن “المناخ المسمّم سيكون سببا يزيد من صعوبة إنتاج المؤلفين والفنانين لأعمال أدبية وفنية. هناك بالفعل رقابة ذاتية على نطاق واسع بين الأدباء بسبب القمع السياسي. من الآن فصاعدا، سيكون لدينا المزيد من ذلك.

 

ويلفت متابعون إلى أن لتركيا تاريخا طويلا من الرقابة المشددة على الصحافة والأدب وباقي الحريات.

 

وتشير إليزابيث نولت، وهي أستاذة في جامعة ووريك وباحثة في شؤون الرقابة على الأعمال الأدبية في تركيا، إلى أن فترات الرقابة الشديدة وقمع حرية التعبير في تاريخ تركيا كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقمع والقيود التي كانت مفروضة على وسائل الإعلام. وأردفت قائلة “من تاريخ صدور قانون الصحافة في عام 1931 إلى فترة الانقلابات العسكرية في أعوام 1960 و1971 و1980، وحتى الآن، تُصاحب التغييرات السياسية بوجه عام رقابة ومحاولات من جانب الدولة لتشكيل ملامح الثقافة والأخلاق والهوية التركية.

 

وخلال أول عقدين بعد تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923، تمكنت دولة الحزب الواحد من الضغط على الكُتّاب بشكل مباشر. وقد كان الكثير من هؤلاء الكتاب أعضاء في البرلمان، وكان الشكل الأساسي لنشر الأعمال الأدبية في صورة سلاسل تُنشر في الصحف. وبعد انطلاق نظام التعدد الحزبي في عام 1945، صار حظر الكتب والمحاكمات والغرامات والضرائب سمة أساسية للرقابة على الأعمال الأدبية، وفقا لما ذكرته نولت.

 

وجرت محاكمة مبكرة مرتبطة بالرقابة عام 1939 بعد حظر السلطات لترجمة نُصحي بيدر لرواية “أفروديتي: الأعراف القديمة” للكاتب بيير لويس، والتي تعود إلى عام 1896. وقد مثُل من قاموا على نشر الترجمة وطباعتها للمحاكمة قبل أن يتم الإفراج عنهم في أعقاب معركة قانونية طويلة حظيت بتغطية كبيرة وأثارت غضب الجماهير.

 

لكن في ذلك الوقت، قوبلت اتهامات الفحش والإخلال بالآداب العامة التي وجهتها السلطات بمعارضة من قطاعات عريضة من المجتمع التركي.

 

وقالت نولت إنه “على عكس ‘شقة زمرد”، حيث هناك ضغط شعبي من جميع الأطياف السياسية لإجراء تحقيق، كان هناك اصطفاف شعبي وراء غالبية المفكرين -بما في ذلك بيامي صفا المحافظ، ونجيب فاضل قيصاكورك- للدفاع عن الجدارة الأدبية لتلك الترجمة، دافعين بأن “أفروديتي: الأعراف القديمة” من روائع الأدب العالمي. من ثم فقد حظيت محاكمة أفروديتي باهتمام كبير من الجماهير إلى درجة أن التغطية الإعلامية لها فاقت أخبار اندلاع الحرب العالمية الثانية، وصار الكتاب سريعا من بين الأكثر مبيعا.

 

وفي إحدى القضايا الأخرى الشهيرة في عام 1986، حظرت محكمة رواية (مدار الجدي) للكاتب هنري ميلر مدّعية إثارتها للشهوات الجنسية بين الناس. سُمح بنشر الكتاب في ما بعد مع حذف الأجزاء المخالفة للآداب العامة. وفي تحرك عصيان مدني جديد من نوعه، نفّذ الناشرون قرار المحكمة، لكنهم نشروا في نهاية الكتاب أيضا القرار الذي تضمن الفقرات التي خضعت للرقابة.

 

ويستنتج المتابعون أن هذه الممارسات تتجدد اليوم في تركيا بنفس الأدوات، حيث تلجأ حكومة حزب العدالة والتنمية إلى تطبيق التكتيكات ذاتها على الأدب الذي تستخدمه للسيطرة على وسائل الإعلام، بما في ذلك الغرامات المالية والسجن والتعريف الفضفاض للمخالفات التي تدخل في نطاق جرائم الإرهاب، وحشد القطاع تحت لواء كيانات رسمية موالية للحكومة، وعلى الرغم من القمع الذي يكبل طريق الأدباء الأتراك تبقى الكتابة وسيلتهم السلمية الوحيدة